درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۱: دلیل عقلی ۱

 

ـ ٢ ـ

الدليل العقلي

العلاقات القائمة بين نفس الأحكام.

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه.

العلاقات القائمة بين الحكم ومتعلّقه.

العلاقات القائمة بين الحكم والمقدمات.

العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد.

دراسة العلاقات العقلية :

حينما يدرس العقل العلاقات بين الأشياء يتوصّل إلى معرفة أنواعٍ عديدةٍ من العلاقة ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ علاقة التضادّ بين السواد والبياض ، وهي تعني استحالة اجتماعهما في جسمٍ واحد ، ويدرك علاقة التلازم بين السبب والمسبّب ، فإنّ كلّ مسبّبٍ في نظر العقل ملازم لسببه ويستحيل انفكاكه عنه ، نظير الحرارة بالنسبة إلى النار ، ويدرك علاقة التقدم والتأخر في الدرجة بين السبب والمسبّب.

ومثاله : إذا أمسكت مفتاحاً بيدك وحرّكت يدك فيتحرّك المفتاح بسبب ذلك ، وبالرغم من أنّ المفتاح في هذا المثال يتحرّك في نفس اللحظة التي تتحرّك فيها يدك ، فإنّ العقل يدرك أنّ حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح ، وحركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد لا من ناحية زمنية ، بل من ناحية تسلسل الوجود ، ولهذا نقول حين نريد أن نتحدّث عن ذلك : «حرّكت يدي فتحرَّك المفتاح» ، فالفاءُ هنا تدلّ على تأخّر حركة المفتاح عن حركة اليد ، مع أنّهما وقعتا في زمانٍ واحد. فهناك إذن تأخّر لا يمتّ إلى الزمان بصلة ، وإنّما ينشأ عن تسلسل الوجود في نظر العقل ، بمعنى أنّ العقل حين يلحظ حركة اليد وحركة المفتاح ويدرك أنّ هذه نابعة من تلك يرى أنّ حركة المفتاح متأخّرة عن حركة اليد بوصفها نابعةً منها ، ويرمز إلى هذا التأخّر بالفاء فيقول : «تحرّكت يدي فتحرَّك المفتاح» ، ويطلق على هذا التأخّر اسم «التأخّر الرتبي».

وبعد أن يدرك العقل تلك العلاقات يستطيع أن يستفيد منها في اكتشاف وجود الشيء أو عدمه ، فهو عن طريق علاقة التضادّ بين السواد والبياض يستطيع

أن يثبت عدم السواد في جسمٍ إذا عرف أنّه أبيض ؛ نظراً إلى استحالة اجتماع البياض والسواد في جسمٍ واحد. وعن طريق علاقة التلازم بين المسبَّب وسببه يستطيع العقل أن يثبت وجود المسبَّب إذا عرف وجود السبب ؛ نظراً إلى استحالة الانفكاك بينهما. وعن طريق علاقة التقدُّم والتأخّر يستطيع العقل أن يكتشف عدم وجود المتأخّر قبل الشيء المتقدم ؛ لأنّ ذلك يناقض كونه متأخّراً ، فإذا كانت حركة المفتاح متأخّرةً عن حركة اليد في تسلسل الوجود فمن المستحيل أن تكون حركة المفتاح ـ والحالة هذه ـ موجودةً بصورةٍ متقدِّمةٍ على حركة اليد في تسلسل الوجود.

وكما يدرك العقل هذه العلاقات بين الأشياء ويستفيد منها في الكشف عن وجود شيءٍ أو عدمه كذلك يدرك العلاقات القائمة بين الأحكام ، ويستفيد من تلك العلاقات في الكشف عن وجود حكمٍ أو عدمه ، فهو يدرك ـ مثلاً ـ التضادّ بين الوجوب والحرمة كما كان يدرك التضادّ بين السواد والبياض ، وكما كان يستخدم هذه العلاقة في نفي السواد إذا عرف وجود البياض كذلك يستخدم علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة لنفي الوجوب عن الفعل إذا عرف أنّه حرام.

فهناك إذن أشياء تقوم بينها علاقات في نظر العقل ، وهناك أحكام تقوم بينها علاقات في نظر العقل أيضاً.

ونطلق على الأشياء اسم «العالم التكويني» ، وعلى الأحكام اسم «العالم التشريعي».

وكما يمكن للعقل أن يكشف وجود الشيء أو عدمه في العالم التكوينيّ عن طريق تلك العلاقات كذلك يمكن للعقل أن يكشف وجود الحكم أو عدمه في العالم التشريعيّ عن طريق تلك العلاقات.

ومن أجل ذلك كان من وظيفة علم الاصول أن يدرس تلك العلاقات في عالم الأحكام بوصفها قضايا عقلية صالحة لأنْ تكون عناصر مشتركة في عملية

الاستنباط ، وفي ما يلي نماذج من هذه العلاقات :

تقسيم البحث :

توجد في العالم التشريعيّ أقسام من العلاقات : فهناك قسم من العلاقات قائم بين نفس الأحكام ـ أي بين حكمٍ شرعيٍّ وحكمٍ شرعيٍّ آخر ـ وقسم ثانٍ من العلاقات قائم بين الحكم وموضوعه ، وقسم ثالث بين الحكم ومتعلّقه ، وقسم رابع بين الحكم ومقدماته ، وقسم خامس وهو العلاقات القائمة في داخل الحكم الواحد ، وقسم سادس وهو العلاقات القائمة بين الحكم وأشياء اخرى خارجةٍ عن نطاق العالم التشريعي.

وسوف نتحدّث عن نماذج لأكثر هذه الأقسام (١) في ما يلي :

__________________

(١) أي لغير القسم السادس ، وأ مّا القسم السادس فنريد به ما كان من قبيل علاقة التلازم بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المقرّر في المبدأ القائل : «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» فانّ هذه العلاقة تقوم بين الحكم الشرعي وشيء خارج عن نطاق العالم التشريعي ، وهو حكم العقل. وقد أجّلنا دراسة ذلك إلى الحلقات المقبلة. المؤلف قدس‌سره

العلاقات القائمة بين نفس الأحكام

علاقة التضادّ بين الوجوب والحرمة :

من المعترف به في علم الاصول أنّه ليس من المستحيل أن يأتي المكلّف بفعلين في وقتٍ واحدٍ أحدهما واجب والآخر حرام ، فيعتبر مطيعاً من ناحية إتيانه بالواجب وجديراً بالثواب ، ويعتبر عاصياً من ناحية إتيانه للحرام ومستحقّاً للعقاب.

ومثاله : أن يشرب الماءَ النجسَ ويدفع الزكاة إلى الفقير في وقتٍ واحد.

وأمّا الفعل الواحد فلا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً ؛ لأنّ العلاقة بين الوجوب والحرمة هي علاقة تضادٍّ ولا يمكن اجتماعهما في فعلٍ واحد ، كما لا يمكن أن يجتمع السواد والبياض في جسمٍ واحد ، فدفع الزكاة إلى الفقير لا يمكن أن يكون ـ وهو واجب ـ حراماً في نفس الوقت ، وشرب النجس لا يمكن أن يكون ـ وهو حرام ـ واجباً في نفس الوقت.

وهكذا يتّضح :

أولاً : أنّ الفعلين المتعدّدين ـ كدفع الزكاة وشرب النجس ـ يمكن أن يتّصف أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ، ولو أوجدهما المكلّف في زمانٍ واحد.

وثانياً : أنّ الفعل الواحد لا يمكن أن يتّصف بالوجوب والحرمة معاً.

والنقطة الرئيسية في هذا البحث عند الاصوليين هي : أنّ الفعل قد يكون واحداً بالذات والوجود ، ومتعدّداً بالوصف والعنوان ، وعندئذٍ فهل يلحق بالفعل الواحد لأنّه واحد وجوداً وذاتاً ، أو يلحق بالفعلين ؛ لأنّه متعدّد بالوصف والعنوان؟

ومثاله : أن يتوضّأ المكلّف بماءٍ مغصوب ، فإنّ هذه العملية التي يؤدّيها إذا

لوحظت من ناحية وجودها فهي شيء واحد ، وإذا لوحظت من ناحيةِ أوصافها فهي توصف بوصفين ، إذ يقال عن العملية : إنّها وضوء ، ويقال عنها في نفس الوقت : إنّها غصب وتصرُّف في مال الغير بدون إذنه ، وكلّ من الوصفين يسمّى «عنواناً» ، ولأجل ذلك تعتبر العملية في هذا المثال واحدةً ذاتاً ووجوداً ، ومتعدّدةً وصفاً وعنواناً.

وفي هذه النقطة قولان للُاصوليِّين :

أحدهما : أنّ هذه العملية ما دامت متعدّدةً بالوصف والعنوان تلحق بالفعلين المتعدّدين ، فكما يمكن أن يتّصف دفع الزكاة للفقير بالوجوب وشرب الماء النجس بالحرمة ، كذلك يمكن أن يكون أحد وصفي العملية وعنوانيها واجباً وهو عنوان الوضوء ، والوصف الآخر حراماً وهو عنوان الغصب. وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بجواز اجتماع الأمر والنهي» (١).

والقول الآخر : يؤكّد على إلحاق العملية بالفعل الواحد على أساس وحدتها الوجودية ، ولا يبرِّر مجرّد تعدّد الوصف والعنوان عنده تعلّق الوجوب والحرمة معاً بالعملية ، وهذا القول يطلق عليه اسم «القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي» (٢).

وهكذا اتّجه البحث الاصوليّ إلى دراسة تعدّد الوصف والعنوان من ناحية أنّه هل يبرّر اجتماع الوجوب والحرمة معاً في عملية الوضوء بالماء المغصوب ، أو أنّ العملية ما دامت واحدةً وجوداً وذاتاً فلا يمكن أن توصف بالوجوب والحرمة في وقتٍ واحد؟

فقد يقال : إنّ الأحكام باعتبارها أشياء تقوم في نفس الحاكم إنّما تتعلّق

__________________

(١) ذهب الى هذا القول المحقق النائيني راجع فوائد الاصول ٢ : ٣٩٨

(٢) نسب المحقق الخراساني هذا القول الى المشهور واختاره هو أيضاً (كفاية الاصول : ١٩٣)

بالعناوين والصور الذهنية ، لا بالواقع الخارجي مباشرةً ، فيكفي التعدّد في العناوين والصور لارتفاع المحذور ، وهذا معناه جواز اجتماع الأمر والنهي.

وقد يقال : إنّ الأحكام وإن كانت تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية ولكنّها لا تتعلّق بها بما هي صور ذهنية ، إذ من الواضح أنّ المولى لا يريد الصورة ، وإنّما تتعلّق الأحكام بالصور بما هي معبّرة عن الواقع الخارجيّ ومرآة له ، وحيث إنّ الواقع الخارجيّ واحد فيستحيل أن يجتمع عليه الوجوب والحرمة ولو بتوسّط عنوانين وصورتين.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ تعدّد العناوين إن كان ناتجاً عن تعدّد الواقع الخارجيّ وكاشفاً عن تكثّر الوجود جاز أن يتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ، وإن كان مجرّد تعددٍ في عالم العناوين والصور الذي هو الذهن فلا يسوغ ذلك.

هل تستلزم الحرمة البطلان؟

إنّ صحّة العقد معناها : أن يترتّب عليه أثره الذي اتّفق عليه المتعاقدان ، ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحاً ونافذاً إذا ترتّب عليه نقل ملكية السلعة من البائع إلى المشتري ، ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع ، ويعتبر فاسداً وباطلاً إذا لم يترتّب عليه ذلك.

وبديهيّ أنّ العقد لا يمكن أن يكون صحيحاً وباطلاً في وقتٍ واحد ، فإنّ الصحّة والبطلان متضادّان كالتضادّ بين الوجوب والحرمة.

والسؤال هو : هل يمكن أن يكون العقد صحيحاً وحراماً؟

ونجيب على ذلك بالإيجاب ، إذ لا تضادّ بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ؛ لأنّ معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع ، ومعنى صحّته أنّ المكلّف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتّب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من