على أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ليست نابعةً من طبيعة اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست ذاتية.
وأمّا الاتّجاه الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأوّل ، أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ، فاكتسبت الالفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمّى ب «الوضع» ، ويسمّى المُمارِس له «واضعاً» ، واللفظ «موضوعاً» ، والمعنى «موضوعاً له».
والحقيقة أنّ هذا الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدّم إلاّخطوةً قصيرهً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة ، إذ خصَّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسِّسون؟
وسوف نجد أنّ المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ، ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسِّس اللغة أن يوجِد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقةً؟
وكلّنا نعلم أنّ المؤسِّس وأيَّ شخصٍ آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ، ولو كرَّر المحاولة مائة مرّةٍ قائلاً : خصَّصتُ حمرة الحبر الذي أكتبُ به لكي تكون سبباً لحرارة الماء. فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ