درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۹: دلیل شرعی ۱

 
۱

خطبه

۲

منشاء سببیت بین لفظ و معنی

۳

مسلک سببیت ذاتی

۴

مسلک اعتبار

۵

مسلک قرن اکید (ابتکار شهید صدر)

۶

تطبیق منشاء سبیت بین لفظ و معنی

۷

تطبیق مسلک سببیت ذاتی

۸

تطبیق مسلک اعتبار

ـ ١ ـ

الدليل الشرعي

أ ـ الدليل الشرعي اللفظي.

الدلالة.

حجّية الظهور.

إثبات الصدور.

ب ـ الدليلى الشرعي غير اللفظي.

أ ـ الدليل الشرعي اللفظي

الدلالة

تمهيد :

لمّا كانت دلالة الدليل اللفظيّ ترتبط بالنظام اللغويّ العامّ للدلالة نجد من الراجح أن نمهِّد للبحث في دلالات الأدلّة اللفظية بدراسةٍ إجماليةٍ لطبيعة الدلالة اللغوية ، وكيفية تكوّنها ، ونظرةٍ عامّةٍ فيها.

ما هو الوضع والعلاقة اللغوية؟

في كلّ لغةٍ تقوم علاقات بين مجموعةٍ من الألفاظ ومجموعةٍ من المعاني ، ويرتبط كلّ لفظٍ بمعنىً خاصٍّ ارتباطاً يجعلنا كلّما تصوّرنا اللفظ انتقل ذهننا فوراً إلى تصوّر المعنى ، وهذا الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى وانتقال الذهن من أحدهما إلى الآخر هو ما نطلق عليه اسم «الدلالة» ، فحين نقول : «كلمة الماء تدلّ على السائل الخاص» نريد بذلك أنّ تصوّر كلمة «الماء» يؤدّي إلى تصوّر ذلك السائل الخاصّ ، ويسمّى اللفظ «دالاًّ» والمعنى «مدلولاً».

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ العلاقة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى تشابه إلى درجةٍ مّا العلاقة التي نشاهدها في حياتنا الاعتيادية بين النار والحرارة ، أو بين

طلوع الشمس والضوء ، فكما أنّ النار تؤدّي إلى الحرارة وطلوع الشمس يؤدّي إلى الضوء كذلك تصوّر اللفظ يؤدّي إلى تصوّر المعنى ، ولأجل هذا يمكن القول بأنّ تصوّر اللفظ سبب لتصوّر المعنى ، كما تكون النار سبباً للحرارة وطلوع الشمس سبباً للضوء ، غير أنّ علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى مجالها الذهن ؛ لأنّ تصوّر اللفظ والمعنى إنّما يوجد في الذهن ، وعلاقة السببية بين النار والحرارة أو بين طلوع الشمس والضوء مجالها العالم الخارجي.

والسؤال الأساسيّ بشأن هذه العلاقة التي توجد في اللغة بين اللفظ والمعنى هو السؤال عن مصدر هذه العلاقة وكيفية تكوّنها ، فكيف تكوّنت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف أصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصور المعنى ، مع أنّ اللفظ والمعنى شيئان مختلفان كلّ الاختلاف؟

ويذكر في علم الاصول عادةً اتّجاهان في الجواب على هذا السؤال الأساسي.

يقوم الاتّجاه الأوّل على أساس الاعتقاد بأنّ علاقة اللفظ بالمعنى نابعة من طبيعة اللفظ ذاته ، كما نبعت علاقة النار بالحرارة من طبيعة النار ذاتها ، فلفظ «الماء» ـ مثلاً ـ له بحكم طبيعته علاقة بالمعنى الخاصّ الذي نفهمه منه ، ولأجل هذا يؤكّد هذا الاتّجاه أنّ دلالة اللفظ على المعنى ذاتية ، وليست مكتسبةً من أيِّ سببٍ خارجي.

ويعجز هذا الاتّجاه عن تفسير الموقف تفسيراً شاملاً ؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى وعلاقته به إذا كانت ذاتيةً وغير نابعةٍ من أيِّ سببٍ خارجيٍّ ، وكان اللفظ بطبيعته يدفع الذهن البشريّ إلى تصوّر معناه فلماذا يعجز غير العربيّ عن الانتقال إلى تصوّر معنى كلمة «الماء» عند تصوّره للكلمة؟ ولماذا يحتاج إلى تعلّم اللغة العربية لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربية وتصوّرها؟ إنّ هذا دليل

على أنّ العلاقة التي تقوم في ذهننا بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ليست نابعةً من طبيعة اللفظ ، بل من سببٍ آخر يتطلّب الحصول عليه إلى تعلّم اللغة ، فالدلالة إذن ليست ذاتية.

وأمّا الاتّجاه الآخر فينكر بحقٍّ الدلالة الذاتية ، ويفترض أنّ العلاقات اللغوية بين اللفظ والمعنى نشأت في كلّ لغةٍ على يد الشخص الأوّل ، أو الأشخاص الأوائل الذين استحدثوا تلك اللغة وتكلّموا بها ، فإنّ هؤلاء خصّصوا ألفاظاً معيّنةً لمعانٍ خاصّة ، فاكتسبت الالفاظ نتيجةً لذلك التخصيص علاقةً بتلك المعاني ، وأصبح كلّ لفظٍ يدلّ على معناه الخاصّ ، وذلك التخصيص الذي مارسه اولئك الأوائل ونتجت عنه الدلالة يسمّى ب «الوضع» ، ويسمّى المُمارِس له «واضعاً» ، واللفظ «موضوعاً» ، والمعنى «موضوعاً له».

والحقيقة أنّ هذا الاتّجاه وإن كان على حقٍّ في إنكاره للدلالة الذاتية ولكنّه لم يتقدّم إلاّخطوةً قصيرهً في حلّ المشكلة الأساسية التي لا تزال قائمةً حتّى بعد الفرضية التي يفترضها أصحاب هذا الاتّجاه ، فنحن إذا افترضنا معهم أنّ علاقة السببية نشأت نتيجةً لعملٍ قام به مؤسِّسو اللغة ، إذ خصَّصوا كلّ لفظٍ لمعنىً خاصٍّ فلنا أن نتساءل : ما هو نوع هذا العمل الذي قام به هؤلاء المؤسِّسون؟

وسوف نجد أنّ المشكلة لا تزال قائمة ؛ لأنّ اللفظ والمعنى ما دام لا يوجد بينهما علاقة ذاتية ، ولا أيّ ارتباطٍ مسبق ، فكيف استطاع مؤسِّس اللغة أن يوجِد علاقة السببية بين شيئين لا علاقة بينهما؟ وهل يكفي مجرّد تخصيص المؤسِّس للَّفظ وتعيينه له سبباً لتصوّر المعنى لكي يصبح سبباً لتصوّر المعنى حقيقةً؟

وكلّنا نعلم أنّ المؤسِّس وأيَّ شخصٍ آخر يعجز أن يجعل من حمرة الحبر الذي يكتب به سبباً لحرارة الماء ، ولو كرَّر المحاولة مائة مرّةٍ قائلاً : خصَّصتُ حمرة الحبر الذي أكتبُ به لكي تكون سبباً لحرارة الماء. فكيف استطاع أن ينجح في جعل اللفظ

سبباً لتصوّر المعنى بمجرّد تخصيصه لذلك دون أيّ علاقةٍ سابقةٍ بين اللفظ والمعنى؟

وهكذا نواجه المشكلة كما كنّا نواجهها ، فليس يكفي لحلِّها أن نفسِّر علاقة اللفظ بالمعنى على أساس عمليةٍ يقوم بها مؤسِّس اللغة ، بل يجب أن نفهم محتوى هذه العملية ؛ لكي نعرف كيف قامت علاقة السببية بين شيئين لم تكن بينهما علاقة.

والصحيح في حلّ المشكلة : أنّ علاقة السببية التي تقوم في اللغة بين اللفظ والمعنى توجد وفقاً لقانونٍ عامٍّ من قوانين الذهن البشري.

والقانون العام هو : أنّ كلّ شيئين إذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان مراراً عديدةً ولو على سبيل الصدفة قامت بينهما علاقة ، وأصبح أحد التصوّرين سبباً لانتقال الذهن إلى تصوّر الآخر.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أن نعيش مع صديقين لا يفترقان في مختلف شؤون حياتهما نجدهما دائماً معاً ، فإذا رأينا بعد ذلك أحد هذين الصديقين منفرداً ، أو سمعنا باسمه أسرع ذهننا إلى تصوّر الصديق الآخر ؛ لأنّ رؤيتهما معاً مراراً كثيرةً أوجدت علاقةً في تصوّرنا ، وهذه العلاقة تجعل تصوّرنا لأحدهما سبباً لتصوّر الآخر.

وقد يكفي أن تقترن فكرة أحد الشيئين بفكرة الآخر مرّةً واحدةً لكي تقوم بينهما علاقة ، وذلك إذا اقترنت الفكرتان في ظرفٍ مؤثّر ، ومثاله : إذا سافر شخص إلى بلدٍ ومُنِيَ هناك بالملاريا الشديدة ، ثمّ شُفِي منها ورجع فقد ينتج ذلك الاقتران بين الملاريا والسفر إلى ذلك البلد علاقة بينهما ، فمتى تصوّر ذلك البلد انتقل ذهنه إلى تصوّر الملاريا. وإذا درسنا على هذا الأساس علاقة السببية بين اللفظ والمعنى زالت المشكلة ، إذ نستطيع أن نفسِّر هذه العلاقة بوصفها نتيجةً لاقتران تصوّر المعنى بتصوّر اللفظ بصورةٍ متكرّرة أو في ظرفٍ مؤثّر ، الأمر الذي أدّى إلى قيام علاقةٍ بينهما ، كما وقع في الحالات المشار إليها.

ويبقى علينا بعد هذا أن نتساءل : كيف اقترن تصوّر اللفظ بمعنىً خاصٍّ مراراً كثيرة ، أو في ظرفٍ مؤثّرٍ فأنتج قيام العلاقة اللغوية بينهما؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ بعض الألفاظ اقترنت بمعانٍ معيّنةٍ مراراً عديدةً بصورةٍ تلقائيةٍ فنشأت بينهما العلاقة اللغوية. وقد يكون من هذا القبيل كلمة «آه» إذ كانت تخرج من فم الإنسان بطبيعته كلّما أحسّ بالألم ، فارتبطت كلمة «آه» في ذهنه بفكرة الألم ، فأصبح كلّما سمع كلمة «آه» انتقل ذهنه إلى فكرة الألم.

ومن المحتمل أنّ الإنسان قبل أن توجد لديه أيُّ لغةٍ قد استرعى انتباهه هذه العلاقة التي قامت بين الألفاظ ، من قبيل «آه» ومعانيها نتيجةً لاقترانٍ تلقائيٍّ بينهما ، وأخذ يُنشِئ على منوالها علاقاتٍ جديدة بين الألفاظ والمعاني. وبعض الألفاظ قرنت بالمعنى في عمليةٍ واعيةٍ مقصودةٍ لكي تقوم بينهما علاقة سببية.

وأحسن نموذجٍ لذلك : الأعلام الشخصية ، فأنتَ حين تريد أن تسمّي ابنك «عليّاً» تقرن اسم عليٍّ بالوليد الجديد لكي تُنشِئ بينهما علاقةً لغوية ويصبح اسم «عليٍّ» دالاًّ على وليدك ، ويسمّى عملك هذا «وضعاً» ، فالوضع هو : عملية تقرن بها لفظاً بمعنىً نتيجتها أن يقفز الذهن إلى المعنى عند تصوّر اللفظ دائماً.

ونستطيع أن نشبِّه الوضع على هذا الأساس بما تصنعه حين تسأل عن طبيب العيون فيقال لك : هو (جابر) ، فتريد أن تركِّز اسمه في ذاكرتك وتجعل نفسك تستحضره متى أردت ، فتحاول أن تقرن بينه وبين شيءٍ قريبٍ من ذهنك ، فتقول مثلاً : أنا بالأمس قرأت كتاباً أخذ من نفسي مأخذاً كبيراً اسم مؤلِّفه جابر ، فلأتذكّر دائماً أنّ اسم طبيب العيون هو اسم صاحب ذلك الكتاب. وهكذا توجِد عن هذا الطريق ارتباطاً خاصّاً بين صاحب الكتاب والطبيب جابر ، وبعد ذلك تُصبِح قادراً على استذكار اسم الطبيب متى تصوّرت ذلك الكتاب.

وهذه الطريقة في إيجاد الارتباط لا تختلف جوهرياً عن اتّخاذ الوضع كوسيلةٍ

لإيجاد العلاقة اللغوية.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ من نتائج الوضع : انسباق المعنى الموضوع له وتبادره إلى الذهن بمجرّد سماع اللفظ بسبب تلك العلاقة التي يحقّقها الوضع. ومن هنا يمكن الاستدلال على الوضع بالتبادر ، وجعله علامةً على أنّ المعنى المتبادر هو المعنى الموضوع له ؛ لأنّ المعلول يكشف عن العلّة كشفاً إنّياً ، ولهذا عُدَّ التبادر من علامات الحقيقة.

ما هو الاستعمال؟

بعد أن يوضع اللفظ لمعنىً يصبح تصوّر اللفظ سبباً لتصوّر المعنى ، ويأتي عندئذٍ دور الاستفادة من هذه العلاقة اللغوية التي قامت بينهما ، فإذا كنت تريد أن تعبِّر عن ذلك لشخصٍ آخر وتجعله يتصوّره في ذهنه فبإمكانك أن تنطق بذلك اللفظ الذي أصبح سبباً لتصوّر المعنى ، وحين يسمعه صاحبك ينتقل ذهنه إلى معناه بحكم علاقة السببية بينهما ، ويسمّى استخدامك اللفظ بقصد إخطار معناه في ذهن السامع «استعمالاً». فاستعمال اللفظ في معناه يعني : إيجاد الشخص لفظاً لكي يعدَّ ذهن غيره للانتقال إلى معناه ، ويسمّى اللفظ «مستعمَلاً» ، والمعنى «مستعمَلاً فيه» ، وإرادة المستعمل إخطار المعنى في ذهن السامع عن طريق اللفظ «إرادة استعمالية».

ويحتاج كلّ استعمالٍ إلى تصوّر المستعمل للَّفظ وللمعنى ، غير أنّ تصوّره لِلَّفظ يكون عادةً على نحو اللحاظ الآليّ المرآتي ، وتصوّره للمعنى على نحو اللحاظ الاستقلالي ، فهما كالمرآة والصورة ، فكما تلحظ المرآة وأنت غافل عنها وكلّ نظرك إلى الصورة كذلك تلحظ اللفظ بنفس الطريقة بما هو مرآة للمعنى وأنت غافل عنه وكلّ نظرك إلى المعنى.

فإن قلت : كيف ألحظُ اللفظَ وأنا غافل عنه ، هل هذا إلاّتناقض؟