درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۷: دلیل شرعی ۹

 

على قيد الإسلام ، وفي كلّ حالةٍ لا يأتي بما يدلّ على القيد نعرف أنّ هذا القيد غير داخلٍ في مرامه ، إذ لو كان داخلاً في مرامه ومع هذا سكتَ عنه لكان ذلك على خلاف ظاهر حاله القاضي بأ نّه في مقام بيان تمام المراد بالكلام ، فبهذا الاستدلال نستكشف الإطلاق من السكوت وعدم ذكر القيد ، ويعبّر عن ذلك بقرينة الحكمة.

٤ ـ أدوات العموم :

أدوات العموم مثالها «كلّ» في قولنا : «احترِمْ كلَّ عادل» ؛ وذلك أنّ الآمر حين يريد أن يدلِّل على شمول حكمه وعمومه قد يكتفي بالإطلاق وذكر الكلمة بدون قيدٍ ـ كما شرحناه آنفاً ـ فيقول : «أكرم الجار» ، وقد يريد مزيداً من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداةٍ خاصّةٍ للدلالة على ذلك ، فيقول في المثال المتقدّم مثلاً : «أكرم كلّ جار» ، فيفهم السامع من ذلك مزيداً من التأكيد على العموم والشمول ، ولهذا تعتبر كلمة «كلّ» من أدوات العموم ؛ لأنّها موضوعة في اللغة لذلك ، ويسمّى اللفظ الذي دلّت الأداة على عمومه «عامّاً» ، ويعبَّر عنه ب «مدخول الأداة» ؛ لأنّ أداة العموم دخلت عليه وعمّمته.

ونستخلص من ذلك : أنّ التدليل على العموم يتمّ بإحدى طريقتين :

الاولى : سلبية ، وهي الإطلاق ، أي ذكر الكلمة بدون قيد.

والثانية : إيجابية ، وهي استعمال أداةٍ للعموم ، نحو «كلّ» و «جميع» و «كافّة» ، وما إليها من ألفاظ.

وقد اختلف الاصوليّون في صيغة الجمع المعرَّف باللام ، من قبيل «الفقهاء» ، «العقود».

فقال بعضهم (١) : إنّ هذه الصيغة نفسها من أدوات العموم أيضاً ، مثل كلمة «كلّ» ، فأيّ جمعٍ من قبيل «فقهاء» إذا أراد المتكلِّم إثبات الحكم لجميع أفراده والتدليل على عمومه بطريقةٍ إيجابيّةٍ أدخل عليه اللام ، فيجعله جمعاً معرّفاً باللام ، ويقول : «احترم الفقهاء» ، أو «أوفوا بالعقود».

وبعض الاصوليِّين (٢) يذهب إلى أنّ صيغة الجمع المعرَّف باللام ليست من أدوات العموم ، ونحن إنّما نفهم الشمول في الحكم عندما نسمع المتكلِّم يقول : «احترم الفقهاء» ـ مثلاً ـ بسبب الإطلاق وتجرّد الكلمة عن القيود ، لا بسبب دخول اللام على الجمع ، أي بطريقةٍ سلبيةٍ لا إيجابية ، فلا فرق بين أن يقال : «أكرم الفقهاء» ، أو : «أكرم الفقيه» ، فكما يستند فهمنا للشمول في الجملة الثانية إلى الإطلاق كذلك الحال في الجملة الاولى ، فالمفرد والجمع المعرَّفان لا يدلاّن على الشمول إلاّبالطريقة السلبية.

٥ ـ أداة الشرط :

أداة الشرط مثالها «إذا» في قولنا : «إذا زالت الشمس فصلِّ» ، و «إذا أحرمت للحجِّ فلا تتطيّب» ، وتسمّى الجملة التي تدخل عليها أداة الشرط جملة شرطية ، وهي تختلف في وظيفتها اللغوية عن غيرها من الجمل التي لا توجد فيها أداة شرط ، فإنّ سائر الجمل تقوم بربط كلمةٍ باخرى ، نظير ربط الخبر بالمبتدأ في

__________________

(١) كالمحقق النائيني رحمه‌الله في فوائد الاصول ٢ : ٥١٦

(٢) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٢ : ٥١٠ ، والمحقّق الخراساني في كفاية الاصول : ٢٥٥

القضية الحملية.

وأمّا الجملة الشرطية فهي تربط بين جملتين ، وهما : جملة الشرط وجملة الجزاء ، وكلّ من هاتين الجملتين تتحوّل بسبب هذا الربط الشرطيّ من جملةٍ تامّةٍ إلى جملةٍ ناقصة ، وتكون الجملة التامة هي الجملة الشرطية بكاملها.

وإذا لاحظنا المثالين المتقدِّمَين للجملة الشرطية وجدنا أنّ الشرط في المثال الأوّل زوال الشمس ، وفي المثال الثاني هو الإحرام للحجّ ، وأمّا المشروط فهو مدلول جملة «صلِّ» و «لا تتطيّب». ولمّا كان مدلول «صلِّ» بوصفه صيغة أمرٍ هو الوجوب ، ومدلول «لا تتطيّب» بوصفه صيغة نهيٍ هو الحرمة ـ كما تقدم ـ فنعرف أنّ المشروط هو الوجوب أو الحرمة ، أي الحكم الشرعي ، ومعنى أنّ الحكم الشرعيّ مشروط بزوال الشمس أو بالإحرام للحجّ : أنّه مرتبط بالزوال أو الإحرام ومقيّد بذلك ، والمقيّد ينتفي إذا انتفى قيده.

وينتج عن ذلك : أنّ أداة الشرط تدلّ على انتفاء الحكم الشرعيّ في حالة انتفاء الشرط ؛ لأنّ ذلك نتيجة لدلالتها على تقييد الحكم الشرعيّ وجعله مشروطاً ، فيدلّ قولنا : «إذا زالت الشمس فصلِّ» على عدم وجوب الصلاة قبل الزوال ، ويدلّ قولنا : «إذا أحرمت للحجِّ فلا تتطيّب» على عدم حرمة الطِيب في حالة عدم الإحرام للحجّ ، وبذلك تصبح الجملة الشرطية ذات مدلولين : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي.

فالإيجابيّ : هو ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، ومدلولها السلبيّ هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.

ويسمّى المدلول الإيجابيّ «منطوقاً» للجملة ، والمدلول السلبيّ «مفهوماً».

وكلّ جملةٍ لها مثل هذا المدلول السلبيّ يقال في العرف الاصولي : إنّ هذه الجملة أو القضية ذات مفهوم.

وقد وضع بعض الاصوليِّين (١) قاعدةً عامّةً لهذا المدلول السلبيّ في اللغة ، فقال : إنّ كلّ أداةٍ لغويةٍ تدلّ على تقييد الحكم وتحديده لها مدلول سلبي ، إذ تدلّ على انتفاء الحكم خارج نطاق الحدود التي تضعها للحكم ، وأداة الشرط تعتبر مصداقاً لهذه القاعدة العامة ؛ لأنّها تدلّ على تحديد الحكم بالشرط.

ومن مصاديق القاعدة أيضاً : أداة الغاية ، حين تقول مثلاً : «صُمْ حتّى تغيب الشمس» ، فإنّ «صُمْ» هنا فعل أمرٍ يدلّ على الوجوب ، وقد دلّت «حتّى» بوصفها أداة غايةٍ على وضع حدٍّ وغايةٍ لهذا الوجوب الذي تدلّ عليه صيغة الأمر ، ومعنى كونه غايةً له : تقييده ، فيدلّ على انتفاء وجوب الصوم بعد مغيب الشمس ، وهذا هو المدلول السلبيّ الذي نطلق عليه اسم المفهوم. ويسمّى المدلول السلبيّ للجملة الشرطية ب «مفهوم الشرط» ، كما يسمّى المدلول السلبيّ لأداة الغاية ـ من قبيل حتّى في المثال المتقدم ـ ب «مفهوم الغاية».

وأمّا إذا قيل : «أكرم الفقير العادل» فلا يدلّ القيد هنا على أنّ غير العادل لا يجب إكرامه ؛ لأنّ هذا القيد ليس قيداً للحكم ، بل هو وصف للفقير وقيد له ، والفقير هو موضوع الحكم لانفسه ، وما دام التقييد لا يعود إلى الحكم مباشرةً فلا دلالة له على المفهوم ، ومن هنا يقال : إنّه لا مفهوم للوصف ، ويراد به ما كان من قبيل كلمة «العادل» في هذا المثال.

__________________

(١) ذكر ذلك صاحب الكفاية في بحث مفهوم الغاية. (كفاية الاصول : ٢٤٦) وكذا المحقق النائيني في بحث مفهوم الوصف (أجود التقريرات ١ : ٤٣٥)