درس اصول الفقه (۲) مباحث حجت واصول عملیه

جلسه ۸۷: اصول عملیه ۳

جواد مروی
استاد
جواد مروی
 
۱

صوت این جلسه موجود نیست

الاستصحاب

تعريفه

إذا تيقّن المكلّف بحكم أو بموضوع ذي حكم ، ثمّ تزلزل يقينه السابق بأن شكّ في بقاء ما كان قد تيقّن به سابقا ؛ فإنّه بمقتضى ذهاب يقينه السابق يقع المكلّف في حيرة من أمره في مقام العمل ، هل يعمل على وفق ما كان متيقّنا به ـ ولكنّه ربما زال ذلك المتيقّن ، فيقع في مخالفة الواقع ـ أو لا يعمل على وفقه ، فينقضي ذلك اليقين بسبب ما عراه من الشكّ ، ويتحلّل ممّا تيقّن به سابقا ـ ولكنّه ربما كان المتيقّن باقيا على حاله لم يزل ، فيقع في مخالفة الواقع ـ؟ إذن ما ذا تراه صانعا؟

لا شكّ أنّ هذه الحيرة طبيعيّة للمكلّف الشاكّ ، فتحتاج إلى ما يرفعها من مستند شرعيّ ، فإن ثبت بالدليل أنّ القاعدة هي أن يعمل على وفق اليقين السابق وجب الأخذ بها ، ويكون معذورا لو وقع في المخالفة ، وإلاّ فلا بدّ أن يرجع إلى مستند يطمّنه من التحلّل ممّا تيقّن سابقا ، ولو مثل أصل البراءة ، أو الاحتياط.

وقد ثبت لدى الكثير من الأصوليين أنّ القاعدة في ذلك أن يأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ اللاحق في بقائه ، على اختلاف أقوالهم في شروط جريان هذه القاعدة ، وحدودها على ما سيأتي. وسمّوا هذه القاعدة بـ «الاستصحاب».

وكلمة «الاستصحاب» مأخوذة في أصل اشتقاقها من كلمة «الصحبة» من باب الاستفعال ، فتقول : «استصحبت هذا الشخص» إذا اتّخذته صاحبا مرافقا لك. وتقول : «استصحبت هذا الشيء» إذا حملته معك.

وإنّما صحّ إطلاق هذه الكلمة على هذه القاعدة في اصطلاح الأصوليّين باعتبار أنّ العامل بها يتّخذ ما تيقّن به سابقا صحيبا له إلى الزمان اللاحق في مقام العمل.

وعليه ، فكما يصحّ أن تطلق كلمة «الاستصحاب» على نفس الإبقاء العمليّ من الشخص المكلّف العامل ، كذلك يصحّ إطلاقها على نفس القاعدة لهذا الإبقاء العمليّ ؛ لأنّ القاعدة في الحقيقة إبقاء ، واستصحاب من الشارع حكما.

إذا عرفت ذلك فينبغي أن يجعل التعريف لهذه القاعدة المجعولة ، لا لنفس الإبقاء العمليّ من المكلّف العامل بالقاعدة ؛ لأنّ المكلّف يقال له : «عامل بالاستصحاب ، ومجر له» ، وإن صحّ أن يقال له : «إنّه استصحب» ، كما يقال له : «أجرى الاستصحاب».

وعلى كلّ حال ، فموضوع البحث هنا هو هذه القاعدة العامّة. والمقصود بالبحث إثباتها ، وإقامة الدليل عليها ، وبيان مدى حدود العمل بها ، فلا وجه لجعل التعريف لذات الإبقاء العمليّ الذي هو فعل العامل بالقاعدة ، كما صنع بعضهم (١) ، فوقع في حيرة من توجيه التعريفات.

وإلى تعريف القاعدة نظر من عرّف الاستصحاب بأنّه «إبقاء ما كان» (٢) ، فإنّ القاعدة في الحقيقة معناها إبقاؤه حكما (٣). وكذلك من عرّفه بأنّه «الحكم ببقاء ما كان» (٤). ولذا قال الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره عن ذلك التعريف : «والمراد بالإبقاء : الحكم بالبقاء» ، بعد أن قال : «إنّه أسدّ التعاريف وأخصرها».

ولقد أحسن وأجاد في تفسير «الإبقاء» بالحكم بالبقاء ، ليدلّنا على أنّ المراد من «الإبقاء» حكما الذي هو القاعدة ، لا الإبقاء عملا الذي هو فعل العامل بها.

وقد اعترض (٥) على هذا التعريف ـ الذي استحسنه الشيخ قدس‌سره ـ بعدّة أمور نذكر أهمّها ،

__________________

(١) وهو المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٩ ـ ١٤.

(٢) قال الشيخ الأنصاريّ : إنّ هذا التعريف أسدّ التعاريف وأخصرها. ثمّ قال : وإليه مرجع تعريفه في الزبدة بـ «أنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل». فرائد الأصول ٢ : ٥٤١.

(٣) أي : إبقاء ما كان حكما.

(٤) هكذا عرّفه العلاّمة الآشتيانيّ في بحر الفوائد ٣ : ٣. والتحقيق أنّه نفس التعريف الأوّل الذي اختاره الشيخ الأنصاريّ ، لأنّه فسّر الإبقاء في التعريف الأوّل بالحكم بالبقاء ، فمعنى قوله : «إبقاء ما كان» هو الحكم ببقاء ما كان. والمحقّق العراقي فسّر «الحكم» بالتصديق الظنّي أو اليقين التعبّدي. نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٢ ـ ٣ ، وتعليقاته على فوائد الأصول ٤ : ٣٠٧.

(٥) والمعترض عليه بالأمرين الآتيين هو المحقّق الخراسانيّ في الحاشية على الرسائل : ١٧١.

واعترض عليه المحقّق الأصفهانيّ بالأمر الأوّل في نهاية الدراية ٣ : ٦.

ونجيب عنها (١) :

منها : [أنّه] لا جامع للاستصحاب بحسب المشارب فيه من جهة المباني الثلاثة الآتية في حجّيّته ، وهي الأخبار ، وبناء العقلاء ، وحكم العقل. فلا يصحّ أن يعبّر عنه «بالإبقاء» على جميع هذه المباني ؛ وذلك لأنّ المراد منه إن كان الإبقاء العمليّ من المكلّف فليس بهذا المعنى موردا لحكم العقل ؛ لأنّ المراد من حكم العقل هنا إذعانه ، كما سيأتي ، وإذعانه إنّما هو ببقاء الحكم ، لا بإبقائه العمليّ من المكلّف. وإن كان المراد منه الإبقاء غير المنسوب إلى المكلّف ، فمن الواضح أنّه لا جهة جامعة بين الإلزام الشرعيّ ـ الذي هو متعلّق بالإبقاء ـ وبين البناء العقلائيّ ، والإدراك العقليّ.

والجواب يظهر ممّا سبق ؛ فإنّ المراد من الاستصحاب هو القاعدة في العمل المجعولة من قبل الشارع ، وهي قاعدة واحدة في معناها على جميع المباني ، غاية الأمر أنّ الدليل عليها تارة يكون الأخبار ، وأخرى بناء العقلاء ، وثالثة إذعان العقل الذي يستكشف منه حكم الشرع.

ومنها : أنّ التعريف المذكور لا يتكفّل ببيان أركان الاستصحاب من نحو اليقين السابق ، والشكّ اللاحق.

والجواب : أنّ التعبير «بإبقاء ما كان» مشعر بالركنين معا :

أمّا الأوّل : ـ وهو اليقين السابق ـ فيفهم من كلمة «ما كان» ؛ لأنّه ـ كما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره ـ «دخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيّته للحكم ، فعلّة الإبقاء أنّه كان ، فيخرج من التعريف إبقاء الحكم ؛ لأجل وجود علّته ، أو دليله». (٢) وحينئذ ، لا يفرض «أنّه كان» إلاّ إذا كان متيقّنا.

وأمّا الثاني : ـ وهو الشكّ اللاحق ـ فيفهم من كلمة «الإبقاء» الذي معناه الإبقاء حكما ، وتنزيلا ، وتعبّدا ، ولا يكون الحكم التعبّديّ التنزيليّ إلاّ في مورد مفروض فيه الشكّ في الواقع الحقيقيّ ، بل مع عدم الشكّ في البقاء لا معنى لفرض الإبقاء ، وإنّما يكون بقاء

__________________

(١) الضمير راجع إلى الأهمّ باعتبار المضاف إليه ، وكم له من نظائر؟!.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٤١.

للحكم ، ويكون أيضا عملا بالحاضر ، لا بما كان.

مقوّمات الاستصحاب

بعد أن أشرنا إلى أنّ لقاعدة الاستصحاب أركانا ، ـ نقول تعقيبا على ذلك ـ : إنّ هذه القاعدة تتقوّم بعدّة أمور إذا لم تتوفّر فيها فإمّا ألاّ تسمّى استصحابا أو لا تكون مشمولة لأدلّته الآتية (١). ويمكن أن ترتقي هذه المقوّمات إلى سبعة أمور ، حسبما تقتنص من كلمات الباحثين :

١. «اليقين» : والمقصود به اليقين بالحالة السابقة ، سواء كانت حكما شرعيّا ، أو موضوعا ذا حكم شرعيّ. وقد قلنا سابقا : (٢) إنّ ذلك ركن في الاستصحاب ؛ لأنّ المفهوم من الأخبار الدالّة عليه ، بل من معناه أن يثبت يقين بالحالة السابقة ، وأنّ لثبوت هذا اليقين علّيّة في القاعدة.

ولا فرق في ذلك بين أن نقول بأنّ اعتبار سبق اليقين من جهة كونه صفة قائمة بالنفس ، وبين أن نقول بذلك من جهة كونه طريقا ، وكاشفا. وسيأتي بيان وجه الحقّ من القولين. (٣)

٢. «الشكّ» : والمقصود منه الشكّ في بقاء المتيقّن. وقد قلنا سابقا : (٤) إنّه ركن في الاستصحاب ؛ لأنّه لا معنى لفرض هذه القاعدة ، ولا للحاجة إليها ، مع فرض بقاء اليقين ، أو تبدّله بيقين آخر ، ولا يصحّ أن تجري إلاّ في فرض الشكّ في بقاء ما كان متيقّنا. فالشكّ مفروغ عنه في فرض جريان قاعدة الاستصحاب ، فلا بدّ أن يكون مأخوذا في موضوعها.

__________________

(١) فلا تكون حجّة على الحكم الفرعي.

(٢) في الجواب عن الاعتراض الثاني.

(٣) لم يأت في المباحث الآتية.

قال المحقّق النائيني : «فأخذ اليقين في الأخبار إنّما يكون باعتبار كونه كاشفا ، وطريقا إلى المتيقّن ، لا بما أنّه صفة قائمة في النفس». فوائد الأصول ٣ : ٣٧٤.

ولا يبعد أن ينهج المصنّف في المقام منهج أستاذه المحقّق النائيني ، كما يشعر به كلامه الآتي : «لا يصحّ أن يقصد أحكام اليقين من جهة أنّه صفة من الصفات ... ، فالمراد من الأحكام الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين به». راجع الصفحة : ٦٤٤.

(٤) في الصفحة السابقة.