الأمر الثاني : القاعدة الثانويّة للمتعادلين
قد تقدّم أنّ القاعدة الأوّليّة في المتعادلين هي التساقط ، (١) ولكن استفاضت الأخبار ، بل تواترت في عدم التساقط ، غير أنّ آراء الأصحاب اختلفت في استفادة نوع الحكم منها ؛ لاختلافها على ثلاثة أقوال : (٢)
١. التخيير في الأخذ بأحدهما ، وهو مختار المشهور ، (٣) بل نقل الإجماع عليه. (٤)
٢. التوقّف بما يرجع إلى الاحتياط في العمل ، ولو كان الاحتياط مخالفا لهما ، كالجمع بين القصر والإتمام في مورد تعارض الأدلّة بالنسبة إليهما.
وإنّما كان التوقّف يرجع إلى الاحتياط ؛ لأنّ التوقّف يراد منه التوقّف في الفتوى على طبق أحدهما ، وهذا يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في المورد الفاقد للنصّ مع العلم الإجماليّ بالحكم.
٣. وجوب الأخذ بما طابق منهما الاحتياط ، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط تخيّر بينهما.
ولا بدّ من النظر في الأخبار لاستظهار الأصحّ من الأقوال. وقبل النظر فيها ينبغي الكلام عن إمكان صحّة هذه الأقوال جملة ، بعد ما سبق من تحقيق أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط ، فكيف يصحّ الحكم بعدم تساقطهما حينئذ؟! وأكثرها إشكالا هو القول بالتخيير بينهما ؛ للمنافاة الظاهرة بين الحكم بتساقطهما ، وبين الحكم بالتخيير.
نقول في الجواب عن هذا السؤال : إنّه إذا فرضت قيام الإجماع ، ونهوض الأخبار على عدم تساقط المتعارضين ، فإنّ ذلك يكشف عن جعل جديد من قبل الشارع لحجّيّة أحد
__________________
(١) تقدّم في الصفحة : ٥٥٨.
(٢) بل هي ستّة أقوال ، كما في بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتي) : ٤٢٢.
(٣) فراجع معارج الأصول : ١٥٦ ؛ مبادئ الوصول : ٢٣٣ ؛ الفصول : ٤٥٤ ؛ مناهج الأحكام : ٣١٧ ، قوانين الأصول ٢ : ٢٨٣ ؛ فرائد الأصول ٢ : ٧٦٢ ، وغيرها من كتب المتأخّرين.
(٤) والناقل هو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٠٢.