الغيريّ» ، بل عباديّته لا بدّ أن تكون مفروضة التحقّق قبل فرض تعلّق الأمر الغيريّ به. ومن هنا يصحّ استحقاق الثواب عليه ؛ لأنّه عبادة في نفسه. (١)
ولكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر ، وهو أنّه إذا كانت عباديّة الطهارات غير ناشئة من الأمر الغيريّ ، فما هو الأمر المصحّح لعباديّتها ، والمعروف أنّه لا يصحّ فرض العبادة عبادة إلاّ بتعلّق أمر بها ليمكن قصد امتثاله ؛ لأنّ قصد امتثال الأمر هو المقوّم لعباديّة العبادة عندهم ، وليس لها في الواقع إلاّ الأمر الغيريّ ، فرجع الأمر بالأخير إلى الغيريّ لتصحيح عباديّتها (٢)؟
على أنّه يستحيل أن يكون الأمر الغيريّ هو المصحّح لعباديّتها ؛ لتوقّف عباديّتها ـ حينئذ ـ على سبق الأمر الغيريّ ، والمفروض أنّ الأمر الغيريّ متأخّر عن فرض عباديّتها ؛ لأنّه إنّما تعلّق بها بما هي عبادة ، فيلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، وهو خلف محال أو دور على ما قيل (٣).
وقد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه كثيرة (٤).
وأحسنها فيما أرى ـ بناء على ثبوت الأمر الغيريّ ، أي وجوب مقدّمة الواجب ، وبناء على أنّ عباديّة العبادة لا تكون إلاّ بقصد الأمر المتعلّق بها ـ هو أنّ المصحّح لعباديّة الطهارات هو الأمر النفسيّ الاستحبابيّ لها في حدّ ذاتها السابق على تعلّق الأمر الغيريّ بها. وهذا الاستحباب باق حتّى بعد فرض الأمر الغيريّ ، ولكن لا بحدّ الاستحباب الذي هو جواز الترك ؛ إذ المفروض أنّه قد وجب فعلها ، فلا يجوز تركها ، وليس الاستحباب إلاّ مرتبة ضعيفة بالنسبة إلى الوجوب ، فلو طرأ عليه الوجوب لا ينعدم ، بل يشتدّ وجوده ؛ فيكون الوجوب استمرارا له كاشتداد السواد والبياض من مرتبة ضعيفة إلى مرتبة أقوى ، وهو وجود واحد مستمرّ. وإذا كان الأمر كذلك فالأمر الغيريّ حينئذ يدعو إلى ما هو
__________________
(١) هذا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ١٣٩ ـ ١٤٠.
(٢) هذا الإشكال أورده المحقّق النائينيّ على المحقّق الخراسانيّ. راجع أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.
(٣) والقائل الشيخ الأنصاريّ في كتاب «الطهارة» : ٨٧ السطر ٢٨ ـ ٣٦.
(٤) راجع أجود التقريرات ١ : ٢٥٥ ؛ بدائع الأفكار (العراقي) ١ : ٣٨١ ؛ نهاية الدراية ١ : ٣٨٠.