درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۸: تعارض ادله ۲

 

يكون قرينةً على تفسير الآخر ومخصِّصاً له أو مقيِّداً أو حاكماً عليه فلا يجوز العمل بأيِّ واحدٍ من الدليلين المتعارضين ؛ لأنّهما على مستوىً واحدٍ ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.

حالات التعارض الاخرى :

وحالات التعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر ، أو دليلين من غير الأدلّة اللفظية لها قواعد أيضاً نشير إليها ضمن النقاط التالية :

١ ـ الدليل اللفظيّ القطعيّ لا يمكن أن يعارضه دليل عقليّ قطعي ؛ لأنّ دليلاً من هذا القبيل إذا عارض نصّاً صريحاً من المعصوم عليه‌السلام أدّى ذلك إلى تكذيب المعصوم عليه‌السلام وتخطئته ، وهو مستحيل.

ولهذا يقول علماء الشريعة : إنّ من المستحيل أن يوجَد أيّ تعارضٍ بين النصوص الشرعية الصريحة وأدلّة العقل القطعية.

وهذه الحقيقة لا تفرضها العقيدة فحسب ، بل يبرهن عليها الاستقراء في النصوص الشرعية ودراسة المعطيات القطعية للكتاب والسنّة ، فإنّها جميعاً تتّفق مع العقل ، ولا يوجد فيها ما يتعارض مع أحكام العقل القطعية إطلاقاً.

٢ ـ إذا وجد تعارض بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ آخر ليس لفظياً ولا قطعياً قدّمنا الدليل اللفظي ؛ لأنّه حجّة ، وأمّا الدليل غير اللفظيّ فهو ليس حجّةً ما دام لا يؤدّي إلى القطع.

٣ ـ إذا عارض الدليل اللفظيّ غير الصريح دليلاً عقلياً قطعياً قُدِّم العقليّ على اللفظي ؛ لأنّ العقليّ يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، وأمّا الدليل اللفظيّ غير الصريح فهو إنّما يدلّ بالظهور ، والظهور إنّما يكون حجّةً بحكم الشارع إذا لم نعلم ببطلانه ، ونحن هنا على ضوء الدليل العقليّ القطعيّ نعلم بأنّ الدليل اللفظيّ لم يَرِدِ

المعصوم عليه‌السلام منه معناه الظاهر الذي يتعارض مع دليل العقل ، فلا مجال للأخذ بالظهور.

٤ ـ إذا تعارض دليلان من غير الأدلّة اللفظية فمن المستحيل أن يكون كلاهما قطعياً ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى التناقض ، وإنّما قد يكون أحدهما قطعياً دون الآخر ، فيؤخذ بالدليل القطعي.

٢ ـ التعارض بين الاصول

وأمّا التعارض بين الاصول فالحالة البارزة له هي التعارض بين البراءة والاستصحاب ، ومثالها : أنّا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتّى غروب الشمس ، ونشكّ في بقاء الوجوب بعد الغروب إلى غياب الحمرة ، ففي هذه الحالة تتوفّر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أوّلاً ، والشك في بقائه ثانياً ، وبحكم الاستصحاب يتعيّن الالتزام عملياً ببقاء الوجوب.

ومن ناحيةٍ اخرى نلاحظ أنّ الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة ؛ لأنّها شبهة بدوية في التكليف غير مقترنةٍ بالعلم الإجمالي ، وأصل البراءة ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنّا الوجوب عملياً ، فبأيّ الأصلين نأخذ؟

والجواب : أنّا نأخذ بالاستصحاب ونقدِّمه على أصل البراءة ، وهذا متّفق عليه بين الاصوليِّين ، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك : أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراءة ؛ لأنّ دليل أصل البراءة هو النصّ النبويّ القائل : «رفع ما لا يعلمون» (١) ، وموضوعه كلّ ما لا يعلم ، ودليل الاستصحاب هو النصّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول

القائل : «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» (١) ، وبالتدقيق في النصّين نلاحظ أنّ دليل الاستصحاب يلغي الشكّ ، ويفترض كأنّ اليقين باقٍ على حاله ، فيرفع بذلك موضوع أصل البراءة.

ففي مثال وجوب الصوم لا يمكن أن نستند إلى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوباً مشكوكاً ؛ لأنّ الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوماً ، فيكون دليل الاستصحاب حاكماً على دليل البراءة ؛ لأنّه ينفي موضوع البراءة.

٣ ـ التعارض بين النوعين

ونصل الآن إلى فرضية التعارض بين دليلٍ محرزٍ وأصلٍ عملي كأصل البراءة أو الاستصحاب.

والحقيقة أنّ الدليل إذا كان قطعياً فالتعارض غير متصوّرٍ عقلاً بينه وبين الأصل ؛ لأنّ الدليل القطعيّ على الوجوب ـ مثلاً ـ يؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي ، ومع العلم بالحكم الشرعيّ لا مجال للاستناد إلى أيّ قاعدةٍ عملية ؛ لأنّ القواعد العملية إنّما تجري في ظرف الشكّ ، إذ قد عرفنا سابقاً أنّ أصل البراءة موضوعه كلّ ما لا يعلم ، والاستصحاب موضوعه أن نشكَّ في بقاء ما كنّا على يقينٍ منه ، فإذا كان الدليل قطعيّاً لم يبقَ موضوع هذه الاصول والقواعد العملية.

وإنّما يمكن افتراض لونٍ من التعارض بين الدليل والأصل إذا لم يكن الدليل قطعياً ، كما إذا دلّ خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة ـ وخبر الثقة كما مرَّ بنا (٢) دليل

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٨ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١

(٢) في بحث الدليل الشرعي اللفظي ، تحت عنوان : إثبات الصدور

ظنّيّ حكم الشارع بوجوب اتّباعه واتّخاذه دليلاً ـ وكان أصل البراءة من ناحيةٍ اخرى يوسِّع ويرخِّص.

ومثاله : خبر الثقة الدالّ على حرمة الارتماس على الصائم ، فإنّ هذه الحرمة إذا لاحظناها من ناحية الخبر فهي حكم شرعيّ قد قام عليه الدليل الظنّي ، وإذا لاحظناها بوصفها تكليفاً غير معلومٍ نجد أنّ دليل البراءة ـ رفع ما لا يعلمون ـ يشملها ، فهل يحدّد الفقيه في هذه الحالة موقفه على أساس الدليل الظنّيّ المعتبر ، أو على أساس الأصل العملي؟

ويسمّي الاصوليون الدليل الظنّيّ بالأمارة ، ويطلقون على هذه الحالة اسم «التعارض بين الأمارات والاصول».

ولا شكّ في هذه الحالة لدى علماء الاصول في تقديم خبر الثقة وما إليه من الأدلّة الظنّية المعتبرة على أصل البراءة ونحوه من الاصول العملية ؛ لأنّ الدليل الظنّيّ الذي حكم الشارع بحجّيته يؤدّي بحكم الشارع هذا دور الدليل القطعي ، فكما أنّ الدليل القطعيّ ينفي موضوع الأصل ولا يبقي مجالاً لأيّ قاعدةٍ عملية فكذلك الدليل الظنّي الذي أسند إليه الشارع نفس الدور وأمرنا باتّخاذه دليلاً ، ولهذا يقال عادةً : «إنّ الأمارة حاكمة على الاصول العملية».