درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۶: اصول عملیه ۳

 

وقد يبدو لأوّل وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية ، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة ؛ لأنّ كلاًّ من الطرفين تكليف مشكوك.

ولكنّ الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الإجمالي ، بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي إلى براءة الذمّة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معاً ، وهذا يتعارض مع حجّية القطع بوجوب أحد الأمرين ؛ لأنّ حجّية هذا القطع تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير ، فلو حكم الشارع بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم ، وهو مستحيل كما تقدم.

وشمول القاعدة لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ إلى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه على الآخر؟ وسوف نجد أنَّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر ؛ لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.

وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ من الطرفين ، ويعني هذا : أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجماليّ يظلّ مندرجاً ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن شموله.

وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشكّ البدويّ والشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، فالأوّل يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة ، والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأوّلية وهي أصالة الاحتياط.

وفي ضوء ذلك نعرف أنّ الواجب علينا عقلاً في موارد العلم الإجماليّ هو الإتيان بكلا الطرفين ، أي الظهر والجمعة في المثال السابق ؛ لأنّ كلاًّ منهما داخل في

نطاق أصالة الاحتياط.

ويطلق في علم الاصول على الإتيان بالطرفين معاً اسم «الموافقة القطعية» ؛ لأنّ المكلّف عند إتيانه بهما معاً يقطع بأنّه وافق تكليف المولى ، كما يطلق على ترك الطرفين معاً اسم «المخالفة القطعية».

وأمّا الإتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم «الموافقة الاحتمالية» و «المخالفة الاحتمالية» ؛ لأنّ المكلّف في هذه الحالة يحتمل أنّه وافق تكليف المولى ، ويحتمل أنّه خالفه.

انحلال العلم الإجمالي :

إذا وجدتَ كأسين من ماءٍ قد يكون كلاهما نجساً وقد يكون أحدهما نجساً فقط ، ولكنّك تعلم على أيّ حالٍ بأ نّهما ليسا طاهرين معاً ، فينشأ في نفسك علم إجماليّ بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، فإذا اتّفق لك بعد ذلك أنِ اكتشفت نجاسةً في أحد الكأسين وعلمت أنّ هذا الكأس المعيّن نجس ، فسوف يزول علمك الإجماليّ بسبب هذا العلم التفصيلي ؛ لأنّك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعيّن لا تعلم إجمالاً بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين ، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعيّن علماً تفصيلياً وتشكّ في نجاسة الآخر ، لأجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبّر عن العلم الإجماليّ «إمّا وإمّا» ، فلا يمكنك أن تقول : «إمّا هذا نجس أو ذاك» ، بل هذا نجس جزماً ، وذاك لا تدري بنجاسته.

ويعبّر عن ذلك في العرف الاصوليّ ب «انحلال العلم الإجماليّ إلى العلم التفصيليّ بأحد الطرفين والشكّ البدويّ في الآخر» ؛ لأنّ نجاسة ذلك الكأس المعيّن أصبحت معلومةً بالتفصيل ، ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكةً شكّاً ابتدائياً بعد أن

زال العلم الإجمالي ، فيأخذ العلم التفصيليّ مفعوله من الحجّية ، وتجري بالنسبة إلى الشكّ الابتدائيّ أصالة البراءة ، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشكّ الابتدائي.

موارد التردّد :

عرفنا أنّ الشكّ إذا كان بدوياً حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة ، وإذا كان مقترناً بالعلم الإجماليّ حكمت فيه القاعدة العملية الأوّلية.

وقد يخفى أحياناً نوع الشكّ فلا يعلم أهو من الشكّ الابتدائي ، أو من الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ـ أو الناتج عنه بتعبيرٍ آخر ـ ومن هذا القبيل مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر كما يسمّيها الاصوليّون.

وهي : أن يتعلّق وجوب شرعيّ بعمليةٍ مركّبةٍ من أجزاءٍ كالصلاة ، ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاءٍ معيّنةٍ ونشكّ في اشتمالها على جزءٍ عاشرٍ ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي ، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدّد الموقف العملي ، فيتساءل : هل يجب الاحتياط على المكلّف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب ، لكي يكون مؤدّياً للواجب على كلّ تقدير ، أو يكفيه الإتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه؟

وللُاصوليِّين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثّل كلّ منهما اتّجاهاً في تفسير الموقف.

فأحد الاتّجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقاً للقاعدة العملية الأوّلية ؛ لأنّ الشكّ في العاشر مقترن بالعلم الإجمالي ، وهذا العلم الإجماليّ هو علم المكلّف بأنّ الشارع أوجب مركّباً مّا ، ولا يدري أهو المركّب من تسعةٍ ، أو المركّب من عشرة ، أي من تلك التسعة بإضافة واحد؟

والاتّجاه الآخر يطبِّق على الشكّ في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكّاً ابتدائياً غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ ذلك العلم الإجماليّ الذي يزعمه أصحاب الاتّجاه الأوّل منحلّ بعلمٍ تفصيلي ، وهو علم المكلّف بوجوب التسعة على أيّ حال ؛ لأنّها واجبة ، سواء كان معها جزء عاشر أوْ لا ، فهذا العلم التفصيليّ يؤديّ إلى انحلال ذلك العلم الإجمالي ، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبِّر عن العلم الإجمالي ، فلا يمكن القول بأ نَّا نعلم : إمّا بوجوب التسعة ، أو بوجوب العشرة ، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أيِّ حالٍ ونشكّ في وجوب العاشر.

وهكذا يصبح الشكّ في وجوب العاشر شكّاًابتدائياً بعد انحلال العلم الإجمالي ، فتجري البراءة.

والصحيح : هو القول بالبراءة عن غير الأجزاء المعلومة من الأشياء التي يشكّ في دخولها ضمن نطاق الواجب ، كما ذكرناه.

ـ ٤ ـ

الاستصحاب

على ضوء ما سبق نعرف أنّ أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة ، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم «الاستصحاب».

ومعنى الاستصحاب : حكم الشارع على المكلّف بالالتزام عملياً بكلّ شيءٍ كان على يقينٍ منه ثمّ شكّ في بقائه.

ومثاله : أنّا على يقينٍ من أنّ الماء بطبيعته طاهر ، فإذا أصابه شيء متنجِّس نشكّ في بقاء طهارته ؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الماء هل يتنجّس بإصابة المتنجِّس له ، أوْ لا؟

والاستصحاب يحكم على المكلّف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقينٍ بها ، وهي طهارة الماء في المثال المتقدم. ومعنى الالتزام عملياً بالحالة السابقة : ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية ، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرّف فعلاً كما إذا كانت الطهارة باقية ، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرّف فعلاً كما إذا كان الوجوب باقياً ، وهكذا.

والدليل على الاستصحاب هو قول الإمام الصادق عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «ولا ينقض اليقين [أبداً] (١) بالشكّ» (٢).

__________________

(١) أثبتنا هذه الكلمة طبقاً لما في المصدر

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٨ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١

ونستخلص من ذلك : أنّ كلّ حالةٍ من الشكّ البدويّ يتوفّر فيها القطع بشيءٍ أوّلاً والشكّ في بقائه ثانياً يجري فيها الاستصحاب.

الحالة السابقة المتيقّنة :

عرفنا أنّ وجود حالةٍ سابقةٍ متيقّنةٍ شرط أساسيّ لجريان الاستصحاب ، والحالة السابقة قد تكون حكماً عامّاً نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعيّ ؛ ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ، ومدى امتداده في عالمه التشريعي ، فتكون الشبهة حكمية ، ويجري الاستصحاب في نفس الحكم ، كاستصحاب بقاء طهارة الماء بعد إصابة المتنجِّس له ، ويسمّى ب «الاستصحاب الحكمي».

وقد تكون الحالة السابقة شيئاً من أشياء العالم التكوينيّ نعلم بوجوده سابقاً ، ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي ، فتكون الشبهة موضوعيةً ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم. ومثاله : استصحاب عدالة الإمام الذي يشكّ في طروء فسقه ، واستصحاب نجاسة الثوب الذي يشكّ في طروء المطهِّر عليه ، ويسمّى ب «الاستصحاب الموضوعي» ؛ لأنّه استصحاب موضوعٍ لحكمٍ شرعي ، وهو جواز الائتمام في الأوّل ، وعدم جواز الصلاة في الثاني.

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ويخصّه بالشبهة الموضوعية ، ولا شكّ في أنّ الاستصحاب في الشبهة الموضوعية هو المتيقّن من دليله ؛ لأنّ صحيحة زرارة التي ورد فيها إعطاء الإمام للاستصحاب تتضمّن شبهةً موضوعيةً وهي الشك في طروء النوم الناقض ، ولكنّ هذا لايمنع عن التمسّك بإطلاق كلام الإمام في قوله : «ولا ينقض اليقين [أبداً] بالشكّ» لإثبات عموم القاعدة لجميع الحالات ، فعلى مدّعي الاختصاص أن

يبرز قرينةً على تقييد هذا الإطلاق.

الشكّ في البقاء :

والشكّ في البقاء هو الشرط الأساسيّ الآخر لجريان الاستصحاب. ويقسّم الاصوليّون الشكّ في البقاء إلى قسمين تبعاً لطبيعة الحالة السابقة التي نشكّ في بقائها ؛ لأنّ الحالة السابقة قد تكون قابلةً بطبيعتها للامتداد زمانياً ، وإنّما نشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال وجود عاملٍ خارجيٍّ أدّى إلى ارتفاعها.

ومثال ذلك : طهارة الماء ، فإنّ طهارة الماء تستمرّ بطبيعتها وتمتدّ إذا لم يتدخّل عامل خارجي ، وإنّما نشكّ في بقائها لدخول عاملٍ خارجيٍّ في الموقف ، وهو إصابة المتنجِّس للماء.

وكذلك نجاسة الثوب ، فإنّ الثوب إذا تنجّس تبقى نجاسته وتمتدّ ما لم يوجد عامل خارجيّ وهو الغسل ، ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في الرافع».

وقد تكون الحالة السابقة غير قادرةٍ على الامتداد زمانياً ، بل تنتهي بطبيعتها في وقتٍ معيّنٍ ونشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخّل عاملٍ خارجيٍّ في الموقف.

ومثاله : نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شكّ الصائم في بقاء النهار ، فإنّ النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتدَّ زمانياً ، فالشكّ في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عاملٍ خارجي ، وإنّما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في المقتضي» ؛ لأنّ الشكّ في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة من نوع الشكّ في المقتضي ، ويخصّه بحالات الشكّ في الرافع (١). والصحيح : عدم الاختصاص تمسّكاً بإطلاق دليل الاستصحاب.

وحدة الموضوع في الاستصحاب :

ويتّفق الاصوليّون على أنّ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع ، ويعنون بذلك أن يكون الشكّ منصبّاً على نفس الحالة التي كنّا على يقينٍ بها ، فلا يجري الاستصحاب إذا كان المشكوك والمتيقَّن متغايرين.

مثلاً : إذا كنّا على يقينٍ بنجاسة الماء ؛ ثمّ صار بخاراً وشككنا في نجاسة هذا البخار لم يجرِ هذا الاستصحاب ؛ لأنّ ما كنّا على يقينٍ بنجاسته هو الماءُ ، وما نشكّ فعلاً في نجاسته هو البخار ؛ والبخار غير الماء فلم يكن مصبّ اليقين والشكّ واحداً.

__________________

(١) ذهب الى ذلك الشيخ الأنصاري (فرائد الاصول ٣ : ٥١) والميرزا النائيني (أجود التقريرات ٢ : ٣٧٨)