وتوضيح ذلك : أنّ كلّ حرمةٍ واقعيةٍ لها ملاك اقتضائي ، وهو المفسدة والمبغوضية القائمتان بالفعل ، وكذلك الأمر في الوجوب. وأمّا الإباحة فقد تقدم في الحلقة السابقة (١) أنّ ملاكها قد يكون اقتضائياً وقد يكون غير اقتضائي ؛ لأنّها قد تنشأ عن وجود ملاكٍ في أن يكون المكلّف مطلق العنان ، وقد تنشأ عن خلوّ الفعل المباح من أيِّ ملاك.

وعليه فإذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض ، لم يؤدِّ ذلك إلى تغيّرٍ في الأغراض والملاكات والمبادئ للأحكام الواقعية ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضاً ، ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته واقعاً ولا توجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على إباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الإباحة.

غير أنّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين أمرين : إمّا أن يُرخّصه في ارتكاب ما يحتمل إباحته ، وإمّا أن يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته. وواضح أنّ اهتمامه بالاجتناب عن المحرَّمات الواقعية يدعوه إلى المنع عن ارتكاب كلّ ما يحتمل حرمته ، لا لأنّ كلّ ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعية الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهريّ ناشئ من مبغوضية المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.

وفي مقابل ذلك إن كانت الإباحة في المباحات الواقعية ذات ملاكٍ لا اقتضائيّ فلن يجد المولى ما يحول دون إصدار المنع المذكور ، وهذا المنع

__________________

(١) ضمن بحث (الحكم الشرعي وتقسيمه) من مباحث التمهيد ، تحت عنوان : مبادئ الحكم التكليفي.

۶۰۸۷