المستقبل ، أو للتأبيد فى الدّنيا بدليل قوله تعالى :  ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أى الموت ، لأنّهم يتمنّونه فى الآخرة للتّخلّص عن العذاب ، وقوله تعالى :  ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي لأنّ حتّى يدلّ على الانتهاء وهو ينافى التأبيد المطلق.

اقول : إذا أثبتنا أنّ كلمة لن للتأبيد مطلقا بالنّقل عن أهل اللّغة ، فالظاهر أنّها فى الآيتين المذكورتين وأمثالهما محمولة على المجاز ، وهذا القدر كاف فى هذا المقام إذ المقصود تأييد الدّليل العقلى بالدّليل النّقلى ، وإلّا فالمطلب يقينىّ والدّلائل النّقليّة فى الأكثر ظنّيات.

فالأولى فى تقرير الاعتراض أن يقال : أهل اللّغة اختلفوا فى كلمة لن فقال بعضهم للتأبيد مطلقا ، وبعضهم انّها للتأبيد فى الدّنيا ، وقيل هو الحقّ وبعضهم للتأكيد فى المستقبل ، وقال بعضهم لا دلالة لها على التّأبيد ولا على التّأكيد أصلا فلا يثبت كونها للتّأبيد مطلقا ، ولو سلّم فلا يدلّ تأبيد النّفى مطلقا على الاستحالة ، والمدّعى استحالة الرّؤية البصريّة. اللهم إلّا أن يستند بالإجماع المركّب وفيه ما فيه.

والحقّ أنّ كلمة لن فى هذه الآية لتأبيد نفى الرّؤية بل لامتناعها بقرينة ما بعدها أعنى قوله :  ﴿وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي الآية ، لأنّ حاصله بحسب الظّاهر استدلال على ذلك بأنّ رؤية موسى (ع) يستلزم استقرار الجبل فى حال التجلّى ، واللّازم محال فالملزوم مثله. نعم يمكن جعل هذا الاستدلال أيضا دليلا على امتناع رؤيته على ما لا يخفى. وأيضا هذا الكلام يدلّ على أنّ الجبل مع عظم جسامته وغاية صلابته لا يقدر على ورود التّجلّى عليه بل يضمحلّ ويصير كأنّ لم يكن شيئا مذكورا ، فكيف يقدر موسى (ع) على رؤيته بالبصر. وربما يفهم من سياق هذا الكلام بحسب الظّاهر أنّ المراد استحالة الرّؤية البصريّة لا انتفائها فى الجملة كما لا يخفى على المنصف المتفطّن فى معرفة أساليب التّراكيب.

واحتجّ المخالف بتلك الآية على إمكان الرّؤية البصريّة من وجهين :

أحدهما أنّ موسى (ع) سأل الرّؤية حيث قال :  ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ

۲۹۲