وفي هذا الضوء نعرف أنّ البحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عملية تجميع ، بل هو مجال التطبيق للنظريات الاصولية. وتطبيق النظريات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته ، ومجرّد الدقّة في النظريات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها ، ألا ترون أنّ من يدرس بعمقٍ النظريات العامّة في الطبِّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مرضيةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملٍ وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريات على المريض الذي بين يديه؟!

التفاعل بين الفكر الاصوليِّ والفكر الفقهي :

عرفنا أنّ علم الاصول يقوم بدور المنطق بالنسبة إلى علم الفقه ، والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق ، وهذا الترابط الوثيق بينهما يفسِّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصولية على صعيد النظريات من ناحية ، وبين الذهنية الفقهية على صعيد التطبيق من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ توسّع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوةً إلى الأمام ؛ لأنّه يثير أمامها مشاكل ويضطرّها إلى وضع النظريات العامّة لحلولها. كما أنّ دقّة البحث في النظريات الاصولية تنعكس على صعيد التطبيق ، إذ كلّما كانت النظريات أوفر وأدقّ تطلّبت طريقة تطبيقها دقّةً وعمقاً أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتين : الاصولية والفقهية يؤكّده تأريخ العِلمَين على طول الخطّ ، وتكشف عنه بوضوحٍ دراسة المراحل التي مرَّ بها البحث الفقهيّ والبحث الاصوليّ في تأريخ العلم ، فقد نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث.

ولم يكن علم الاصول مستقلاًّ عن علم الفقه في البداية ، ومن خلال نموِّ علم الفقه واتّساع افق التفكير الفقهيِّ أخذت الخيوط العامّة والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشّف ، وأخذ المُمارِسون للعمل الفقهيّ يلاحظون اشتراك

۱۶۵۱۱