درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۴: اصول عملیه ۱

 

النوع الثاني

الاصول العمليّة

١ ـ القاعدة العمليّة الأساسيّة.

٢ ـ القاعدة العمليّة الثانويّة.

٣ ـ قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.

٤ ـ الاستصحاب.

تمهيد :

استعرضنا في النوع الأوّل العناصر الاصولية المشتركة في الاستنباط التي تتمثّل في أدلّةٍ محرزة ، فدرسنا أقسام الأدلّة وخصائصها ، وميّزنا بين الحجّة منها وغيرها.

ونريد الآن أن ندرس العناصر المشتركة في حالةٍ اخرى من الاستنباط ، وهي حالة عدم حصول الفقيه على دليلٍ يدلّ على الحكم الشرعيّ وبقاء الحكم مجهولاً لديه ، فيتّجه البحث في هذه الحالة إلى محاولة تحديد الموقف العمليّ تجاه ذلك الحكم المجهول بدلاً عن اكتشاف نفس الحكم.

ومثال ذلك : حالة الفقيه تجاه التدخين ، فإنّ التدخين نحتمل حرمته شرعاً منذ البدء ، ونتّجه أوّلاً إلى محاولة الحصول على دليلٍ يعيّن حكمه الشرعي ، فحيث لا نجدُ نتساءل ما هو الموقف العمليّ الذي يتحتّم علينا أن نسلكه تجاه ذلك الحكم المجهول؟ وهل يتحتَّم علينا أن نحتاط ، أوْ لا؟

وهذا هو السؤال الأساسيّ الذي يعالجه الفقيه في هذه الحالة ، ويجيب عليه في ضوء الاصول العملية بوصفها عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، وهذه الاصول هي موضع درسنا الآن.

ـ ١ ـ

القاعدة العملية الأساسيّة

ولكي نعرف القاعدة العمليّة الأساسية التي نجيب في ضوئها على سؤال «هل يجب الاحتياط تجاه الحكم المجهول؟» لابدّ لنا أن نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ، ونلاحظ أنّ هذا المصدر هل يفرض علينا الاحتياط في حالة الشكّ وعدم وجود دليل على الحرمة ، أوْ لا؟

ولكي نرجع إلى المصدر الذي يفرض علينا إطاعة المولى سبحانه لابدّ لنا أن نحدِّده ، فما هو المصدر الذي يفرض علينا إطاعة الشارع ويجب أن نستفتيه في موقفنا هذا؟

والجواب : أنّ هذا المصدر هو العقل ؛ لأنّ الإنسان يدرك بعقله أنّ لله سبحانه حقّ الطاعة على عبيده ، وعلى أساس حقّ الطاعة هذا يحكم العقل على الإنسان بوجوب إطاعة الشارع لكي يؤدّي إليه حقّه ، فنحن إذن نطيع الله تعالى ونمتثل أحكام الشريعة ؛ لأنّ العقل يفرض علينا ذلك ، لَالأنّ الشارع أمرنا بإطاعته ، وإلاّ لأعدنا السؤال مرّةً اخرى : ولماذا نمتثل أمر الشارع لنا بإطاعة أوامره؟ وما هو المصدر الذي يفرض علينا امتثاله؟ وهكذا حتّى نصل إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة القائم على أساس ما يدركه من حقّ الطاعة لله سبحانه على الإنسان.

وإذا كان العقل هو الذي يفرض إطاعة الشارع على أساس إدراكه لحقّ الطاعة فيجب الرجوع إلى العقل في تحديد الجواب على السؤال المطروح ، ويتحتّم علينا عندئذٍ أن ندرس حقّ الطاعة الذي يدركه العقل وحدوده ، فهل هو حقّ لله

سبحانه في نطاق التكاليف المعلومة فقط بمعنى أنّ الله سبحانه ليس له حقّ الطاعة على الإنسان إلاّفي التكاليف التي يعلم بها ، وأمّا التكاليف التي يشكّ فيها ولا علم له بها فلا يمتدّ إليها حقّ الطاعة ، أو أنّ حقّ الطاعة كما يدركه العقل في نطاق التكاليف المعلومة يدركه أيضاً في نطاق التكاليف المحتملة ، بمعنى أنّ من حقّ الله على الإنسان أن يطيعه في التكاليف المعلومة والمحتملة ، فإذا علم بتكليفٍ كان من حقّ الله عليه أن يمتثله ، وإذا احتمل تكليفاً كان من حقّ الله أن يحتاط ، فيترك ما يحتمل حرمته أو يفعل ما يحتمل وجوبه؟

والصحيح في رأينا هو : أنّ الأصل في كلّ تكليفٍ محتملٍ هو الاحتياط ؛ نتيجةً لشمول حقّ الطاعة للتكاليف المحتملة ، فإنّ العقل يدرك أنّ للمولى على الإنسان حقَّ الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب ، بل في التكاليف المحتملة أيضاً ، ما لم يثبت بدليلٍ أنّ المولى لا يهتمّ بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تدعو إلى إلزام المكلّف بالاحتياط.

وهذا يعني أنّ الأصل بصورةٍ مبدئيةٍ كلّما احتملنا حرمةً أو وجوباً هو أن نحتاط ، فنترك ما نحتمل حرمته ونفعل ما نحتمل وجوبه ، ولا نخرج عن هذا الأصل إلاّ إذا ثبت بالدليل أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تفرض الاحتياط ؛ ويرضى بترك الاحتياط ، فإنّ المكلّف يصبح حينئذٍ غير مسؤولٍ عن التكليف المحتمل.

فالاحتياط إذن واجب عقلاً في موارد الشكّ ، ويسمّى هذا الوجوب «أصالة الاحتياط» أو «أصالة الاشتغال» ـ أي اشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل ـ ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أنّ الشارع يرضى بترك الاحتياط.

وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.

ويخالف في ذلك كثير من الاصوليّين ؛ إيماناً منهم بأنّ الأصل في المكلّف أن لا

يكون مسؤولاً عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهمّيتها بدرجةٍ كبيرة ، ويرى هؤلاء الأعلام أنّ العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية ؛ لأنّه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلّف للتكليف الذي لم يصل إليه ، ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» ، أو «البراءة العقلية» ، أي أنّ العقل يحكم بأنّ عقاب المولى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح ، وما دام المكلّف مأموناً من العقاب فهو غير مسؤولٍ ولا يجب عليه الاحتياط.

ويستشهد لذلك بما استقرَّت عليه سيرة العقلاء من عدم إدانة الموالي للمكلَّفين في حالات الشكّ ، وعدم قيام الدليل ، فإنّ هذا يدلّ على قبح العقاب بلا بيانٍ في نظر العقلاء.

ولكي ندرك أنّ العقل هل يحكم بقبح معاقبة الله تعالى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك ، أوْ لا؟ يجب أن نعرف حدود حقّ الطاعة الثابت لله تعالى ، فإذا كان هذا الحقّ يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلّف أهمّيتها بدرجةٍ كبيرةٍ ـ كما عرفنا ـ فلا يكون عقاب الله للمكلّف إذا خالفها قبيحاً ؛ لأنّه بمخالفتها يفرِّط في حقّ مولاه فيستحقّ العقاب.

وأمّا ما استشهد به من سيرة العقلاء فلا دلالة له في المقام ، لأنّه إنّما يثبت أنّ حقّ الطاعة في الموالي العرفيِّين يختصّ بالتكاليف المعلومة ، وهذا لا يستلزم أن يكون حقّ الطاعة لله تعالى كذلك أيضاً ، إذ أيّ محذورٍ في التفكيك بين الحقّين والالتزام بأنّ أحدهما أوسع من الآخر؟!

فالقاعدة الأوّلية إذن هي أصالة الاحتياط.

ـ ٢ ـ

القاعدة العمليّة الثانوية

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية إلى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية ، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط.

والسبب في هذا الانقلاب : أنّا علمنا عن طريق البيان الشرعيّ أنّ الشارع لايهتمّ بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تُحتِّم الاحتياط على المكلّف ، بل يرضى بترك الاحتياط.

والدليل على ذلك : نصوص شرعية متعدّدة ، من أشهرها النصّ النبويّ القائل : «رُفع عن امّتي ما لا يعلمون» (١) ، بل استدلّ ببعض الآيات على ذلك ، كقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢). فإنّ الرسول يُفهَم كمثالٍ على البيان والدليل ، فتدلّ الآية على أنّه لا عقاب بدون دليل ، وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلاً عن وجوبه ، وأصالة البراءة شرعاً بدلاً عن أصالة الاشتغال عقلاً.

وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء ؛ لأنّ النصّ النبويّ مطلق ، ويسمَّى الشكّ في الوجوب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول. ومتن الحديث كالتالي : «رفع عن امتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، و...»

(٢) الإسراء : ١٥