درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۰: دلیل شرعی ۱۲

 

وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند إلى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة ، وعدم وجوب الخمس في الميراث ، وهي في الغالب تؤدِّي إلى الجزم بالبيان الشرعيّ ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن.

ومتى كانت كذلك فهي حجّة ، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها ؛ لعدم الدليل على الحجّية حينئذٍ.

وهذه الطرق الثلاث كلّها مبنيّة على تراكم الاحتمالات وتجمّع القرائن.

الرابع : خبر الواحد الثقة ، ونعبِّر بخبر الواحد عن كلّ خبرٍ لا يفيد العلم ، وحكمه : أنّه إذا كان المخبر ثقةً اخذ به وكان حجّة ، وإلاّ فلا ، وهذه الحجّية ثابتة شرعاً لا عقلاً ؛ لأنّها لا تقوم على أساس حصول القطع ، بل على أساس أمر الشارع باتّباع خبر الثقة ، فقد دلّت أدلّة شرعية عديدة على ذلك ، ويأتي بيانها في حلقةٍ مقبلةٍ إن شاء الله تعالى.

ومن تلك الأدلّة : آية النبأ ، وهي قوله تعالى : ﴿يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بنَباً فَتَبَيَّنُوا ...) (١) الآية ، فإنّه يشتمل على جملةٍ شرطية ، وهي تدلّ منطوقاً على إناطة وجوب التبيّن بمجيء الفاسق بالنبأ ، وتدلّ مفهوماً على نفي وجوب التبيّن في حالة مجيء النبأ من قبل غير الفاسق ، وليس ذلك إلاّلحجّيته ، فيستفاد من الآية الكريمة حجّية خبر العادل الثقة.

ويدلّ على حجّية خبره أيضاً : أنّ سيرة المتشرّعة والعقلاء عموماً على الاتّكال عليه ، ونستكشف من انعقاد سيرة المتشرّعة على ذلك واستقرار عمل

__________________

(١) الحجرات : ٦

أصحاب الأئمّة والرواة عليه أنّ حجّيته متلقّاة لهم من قبل الشارع ؛ وفقاً لما تقدّم من حديثٍ (١) عن سيرة المتشرّعة وكيفية الاستدلال بها.

__________________

(١) وذلك في الطريق الثالث من طرق إثبات الصدور

ب ـ الدليل الشرعي غير اللفظي

الدليل الشرعيّ غير اللفظيِّ : كلّ ما يصدر من المعصوم ممّا له دلالة على الحكم الشرعي ، وليس من نوع الكلام.

ويدخل ضمن ذلك فعل المعصوم ، فإن أتى المعصوم بفعلٍ دلّ على جوازه ، وإن تركه دلّ على عدم وجوبه ، وإن أوقعه بعنوان كونه طاعةً لله تعالى دلّ على المطلوبية. ويثبت لدينا صدور هذه الأنحاء من التصرّف عن المعصوم بنفس الطرق المتقدمة التي يثبت بها صدور الدليل الشرعيِّ اللفظي.

ويدخل ضمن ذلك تقرير المعصوم ـ وهو السكوت منه عن تصرّفٍ يواجهه ـ فإنّه يدلّ على الإمضاء ، وإلاّ لكان على المعصوم أن يردع عنه ، فيستكشف من عدم الردع الإمضاء والارتضاء.

والتصرّف : تارةً يكون شخصياً في واقعةٍ معيّنة ، كما إذا توضّأ إنسان أمام الإمام فمسح منكوساً وسكت الإمام عنه ، واخرى يكون نوعياً كالسيرة العقلائية ، وهي عبارة عن مَيلٍ عامٍّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن يكون للشرع دور إيجابيّ في تكوين هذا الميل.

ومثال ذلك : الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم ، أو خبر الثقة ، أو باعتبار الحيازة سبباً لتملّك المباحات الأولية ، والسيرة العقلائية بهذا المعنى تختلف عن سيرة المتشرّعة التي تقدّم أنّها إحدى الطرق لكشف صدور الدليل الشرعي ، فإنّ سيرة المتشرّعة ـ بما هم كذلك ـ تكون عادةً وليدة البيان الشرعي ،

ولهذا تعتبر كاشفةً عنه كشف المعلول عن العلّة.

وأمّا السيرة العقلائية فمردّها ـ كما عرفنا ـ إلى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّن ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي ، بل نتيجة العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيَّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم ، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبِّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة ؛ لأنّ الدّين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة العقلائية لا تكشف عن البيان الشرعيّ كشف المعلول عن العلّة ، وإنّما تدلّ على الحكم الشرعيِّ عن طريق دلالة التقرير بالتقريب التالي ، وهو : أنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوّةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك ، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم يردع المعصوم عن السيرة مع معاصرته لها كشف ذلك عن الرضا بذلك السلوك وإمضائه شرعاً.

ومثال ذلك : سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم ، وعدم ردع المعصومين عن ذلك ، فإنّه يدلّ على أنّ الشريعة تُقِرّ هذه الطريقة في فهم الكلام ، وتوافق على اعتبار الظهور حجّة ، وإلاّ لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ ، وردعت عنه في نطاقها الشرعي.

وبهذا يمكن أن نستدلّ على حجّية الظهور بالسيرة العقلائية ، إضافةً إلى استدلالنا سابقاً (١) عليها بسيرة المتشرّعة المعاصرين للرسول والأ ئمّة عليهم‌السلام.

__________________

(١) في بحث الدليل الشرعي اللفظي تحت عنوان حجيّة الظهور