درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۹: دلیل شرعی ۱۱

 

وظهورها اللغويّ من ناحية ، وكلمة «الحديث» وظهورها اللغوي من ناحيةٍ اخرى ، ومعنى هذا أنّا نتردّد بين صورتين :

إحداهما : صورة الذهاب إلى بحرٍ من الماء المتموِّج والاستماع إلى صوت موجه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «البحر».

والاخرى : صورة الذهاب إلى عالمٍ غزير العلم والاستماع إلى كلامه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «الحديث».

وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعاً ككلٍّ ونرى أيَّ هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي أنّ هذا السياق إذا القي على ذهن شخصٍ يعيش اللغة ونظامها بصورةٍ صحيحةٍ هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الاولى ، أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أنّ إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغويّ العام ـ ولنفرضها الصورة الثانية ـ تكوَّن للسياق ـ ككلٍّ ـ ظهور في الصورة الثانية ، ووجب أن نفسِّر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.

ويطلق على كلمة «الحديث» في هذا المثال اسم «القرينة» ؛ لأنّها هي التي دلّت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة «البحر» وظهورها.

وأمّا إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أنّ الكلام أصبح مجملاً ولا ظهور له ، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامّة.

القرينة المتَّصلة والمنفصلة :

عرفنا أنّ كلمة «الحديث» في المثال السابق قد تكون قرينةً في ذلك السياق ، وتسمّى «قرينةً متّصلة» ؛ لأنّها متّصلة بكلمة «البحر» التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياقٍ واحد ، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمّى

ب «ذي القرينة».

ومن أمثلة القرينة المتّصلة : الاستثناء من العامّ ، كما إذا قال الآمر : «أكرِم كلَّ فقيرٍ إلاّالفُسّاق» ، فإنّ كلمة «كلّ» ظاهرة في العموم لغةً ، وكلمة «الفُسّاق» تتنافى مع العموم ، وحين ندرس السياق ككلٍّ نرى أنّ الصورة التي تقتضيها هذه الكلمة أقرب إليه من صورة العموم التي تقتضيها كلمة «كلّ» ، بل لا مجال للموازنة بينهما ، وبهذا تعتبر أداة الاستثناء قرينةً على المعنى العامّ للسياق.

فالقرينة المتّصلة هي : كلّ ما يتّصل بكلمةٍ اخرى ، فيبطل ظهورها ويوجّه المعنى العامّ للسياق الوجهة التي تنسجم معه.

وقد يتّفق أنّ القرينة بهذا المعنى لا تجيء متّصلةً بالكلام بل منفصلةً عنه ، فتسمّى «قرينةً منفصلة».

ومثاله : أن يقول الآمر : «أكرم كلَّ فقير» ، ثمّ يقول في حديثٍ آخر بعد ساعة : «لا تكرم فسّاق الفقراء» ، فهذا النهي لو كان متّصلاً بالكلام الأوّل لاعتُبِر قرينةً متّصلة ، ولكنّه انفصل عنه في هذا المثال.

وفي هذا الضوء نفهم معنى القاعدة الاصولية القائلة : «إنّ ظهور القرينة مقدَّم على ظهور ذي القرينة ، سواء كانت القرينة متّصلة أو منفصلة».

إثبات الصدور

لكي نعمل بكلامٍ بوصفه دليلاً شرعياً لابدّ من إثبات صدوره من المعصوم ؛ وذلك بأحد الطرق التالية :

الأوّل : التواتر ، وذلك بأن ينقله عدد كبير من الرواة ، وكلّ خبرٍ من هذا العدد الكبير يشكِّل احتمالاً للقضية وقرينةً لإثباتها ، وبتراكم الاحتمالات والقرائن يحصل اليقين بصدور الكلام ، وحجّية التواتر قائمة على أساس إفادته للعلم ، ولا تحتاج حجّيته إلى جعلٍ وتعبّدٍ شرعي.

الثاني : الإجماع والشهرة ، وتوضيح ذلك : أنَّا إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن ـ مثلاً ـ نجد أنّها تشكِّل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليلٍ لفظيٍّ مسبقٍ يدلّ على هذا الوجوب ؛ لأنّ فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها :

أحدهما : أن يكون قد استند في فتواه إلى دليلٍ لفظيٍّ ـ مثلاً ـ بصورةٍ صحيحة.

والآخر : أن يكون مخطئاً في فتواه.

وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معاً فهي قرينة إثباتٍ ناقص ، فإذا أضفنا إليها فتوى فقيهٍ آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضاً كَبُر احتمال وجود دليلٍ لفظيٍّ يدلّ على الحكم ؛ نتيجةً لاجتماع قرينتين ناقصتين ، وحين ينضمّ إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد مَيلاً إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي ، وهكذا نزداد مَيلاً إلى الاعتقاد بذلك كلّما ازداد عدد الفقهاء [المفتين] بوجوب الخمس في المعادن ، فإذا كان الفقهاء قد اتّفقوا جميعاً على هذه الفتوى سُمِّي ذلك «إجماعاً» ، وإذا كانوا

يشكِّلون الأكثرية فقط سُمِّي ذلك «شهرة».

فالإجماع والشهرة طريقان لاكتشاف وجود الدليل اللفظيِّ في جملةٍ من الأحيان.

وحكم الإجماع والشهرة من ناحيةٍ اصوليةٍ أنّه متى حصل العلم بالدليل الشرعيِّ بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عملية الاستنباط ، وأصبح الإجماع والشهرة حجّة ، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما ، إذ لا يفيدان حينئذٍ إلاّالظنّ ، ولا دليل على حجّية هذا الظنّ شرعاً ، فالأصل عدم حجّيته ؛ لأنّ هذا هو الأصل في كلّ ظنٍّ ، كما تقدم.

الثالث : سيرة المتشرّعة ، وهي السلوك العامّ للمتديِّنين في عصر المعصومين ، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلاً عن صلاة الجمعة ، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.

وهذا السلوك العامّ إذا حلّلناه إلى مفرداته ، ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورةٍ مستقلّةٍ نجد أنّ سلوك الفرد المتديِّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينةَ إثباتٍ ناقصة على صدور بيانٍ شرعيٍّ يقرّر ذلك السلوك ، ونحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتّى التسامح.

فإذا عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر ـ مثلاً ـ في يوم الجمعة ازدادت قوّة الإثبات ، وهكذا تكبر قوّة الإثبات حتى تصل إلى درجةٍ كبيرةٍ عندما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عامّاً يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع ، إذ يبدو من المؤكَّد حينئذٍ أنّ سلوك هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطأ أو غفلةٍ أو تسامح ؛ لأنّ الخطأ والغفلة أو التسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك ، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّين في عصر التشريع جميعاً.

وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند إلى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة ، وعدم وجوب الخمس في الميراث ، وهي في الغالب تؤدِّي إلى الجزم بالبيان الشرعيّ ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن.

ومتى كانت كذلك فهي حجّة ، وأما إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها ؛ لعدم الدليل على الحجّية حينئذٍ.

وهذه الطرق الثلاث كلّها مبنيّة على تراكم الاحتمالات وتجمّع القرائن.

الرابع : خبر الواحد الثقة ، ونعبِّر بخبر الواحد عن كلّ خبرٍ لا يفيد العلم ، وحكمه : أنّه إذا كان المخبر ثقةً اخذ به وكان حجّة ، وإلاّ فلا ، وهذه الحجّية ثابتة شرعاً لا عقلاً ؛ لأنّها لا تقوم على أساس حصول القطع ، بل على أساس أمر الشارع باتّباع خبر الثقة ، فقد دلّت أدلّة شرعية عديدة على ذلك ، ويأتي بيانها في حلقةٍ مقبلةٍ إن شاء الله تعالى.

ومن تلك الأدلّة : آية النبأ ، وهي قوله تعالى : ﴿يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بنَباً فَتَبَيَّنُوا ...) (١) الآية ، فإنّه يشتمل على جملةٍ شرطية ، وهي تدلّ منطوقاً على إناطة وجوب التبيّن بمجيء الفاسق بالنبأ ، وتدلّ مفهوماً على نفي وجوب التبيّن في حالة مجيء النبأ من قبل غير الفاسق ، وليس ذلك إلاّلحجّيته ، فيستفاد من الآية الكريمة حجّية خبر العادل الثقة.

ويدلّ على حجّية خبره أيضاً : أنّ سيرة المتشرّعة والعقلاء عموماً على الاتّكال عليه ، ونستكشف من انعقاد سيرة المتشرّعة على ذلك واستقرار عمل

__________________

(١) الحجرات : ٦