درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۸: دلیل شرعی ۱۰

 

حجّية الظهور

إذا واجهنا دليلاً شرعياً فليس المهمّ أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصوّريّ اللغويّ فحسب ، بل أن نفسِّره بالنسبة إلى مدلوله التصديقي ؛ لنعرف ماذا أراد الشارع به ، وكثيراً ما نلاحظ أنّ اللفظ صالح لدلالاتٍ لغويةٍ وعرفيةٍ متعدّدة فكيف نستطيع أن نعيِّن مراد المتكلِّم منه؟

وهنا نستعين بظهورين :

أحدهما : ظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية في معنىً معيّن ، ومعنى الظهور في هذه المرحلة : أنّ هذا المعنى أسرع انسباقاً إلى تصوّر الإنسان عند سماع اللفظ من غيره من المعاني فهو أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً.

والآخر : ظهور حال المتكلِّم في أنّ ما يريده مطابق لظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية ، أي أنّه يريد أقرب المعاني إلى اللفظ لغةً ، وهذا ما يسمّى بظهور التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، ومن المقرّر في علم الاصول أنّ ظهور حال المتكلِّم في إرادة أقرب المعاني إلى اللفظ حجّة.

ومعنى حجّيّة الظهور : اتّخاذه أساساً لتفسير الدليل اللفظيّ على ضوئه ، فنفترض دائماً أنّ المتكلِّم قد أراد المعنى الأقرب إلى اللفظ في النظام اللغويِّ العامِ (١) أخذاً بظهور حاله. ولأجل ذلك يطلق على حجّية الظهور اسم «أصالة الظهور» ؛ لأ نّها تجعل الظهور هو الأصل لتفسير الدليل اللفظي.

وفي ضوء هذا نستطيع أن نعرف لماذا كنَّا نهتمّ في البحث السابق بتحديد

__________________

(١) لا نريد باللغة والنظام اللغويّ العامّ هنا اللغة في مقابل العرف ، بل النظام القائم بالفعل لدلالة الألفاظ ، سواء كان لغويّاً أوّليّاً أو ثانوياً. المؤلف قدس‌سره

المدلول اللغويِّ الأقرب للكلمة والمعنى الظاهر لها بموجب النظام اللغويّ العامّ ، مع أنّ المهمّ عند تفسير الدليل اللفظيّ هو اكتشاف ماذا أراد المتكلِّم باللفظ من معنى ، لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة ، فإنَّا ندرك في ضوء أصالة الظهور أنّ الصلة وثيقة جدّاً بين اكتشاف مراد المتكلِّم وتحديد المدلول اللغويّ الأقرب للكلمة ؛ لأنّ أصالة الظهور تحكم بأنّ مراد المتكلِّم من اللفظ هو نفس المدلول اللغويّ الأقرب ، أي المعنى الظاهر من اللفظ لغةً ، فلكي نعرف مراد المتكلِّم يجب أن نعرف المعنى الأقرب إلى اللفظ لغةً لنحكم بأ نّه هو المعنى المراد للمتكلِّم.

والدليل على حجّية الظهور يتكوّن من مقدِّمتين :

الاولى : أنّ الصحابة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام كانت سيرتهم قائمةً على العمل بظواهر الكتاب والسنّة واتّخاذ الظهور أساساً لفهمهما ، كما هو واضح تأريخيّاً من عملهم وديدنهم.

الثانية : أنّ هذه السيرة على مرأىً ومسمعٍ من المعصومين عليهم‌السلام ولم يعترضوا عليها بشيء ، وهذا يدلّ على صحّتها شرعاً ، وإلاّ لردعوا عنها ، وبذلك يثبت إمضاء الشارع للسيرة القائمة على العمل بالظهور ، وهو معنى حجّية الظهور شرعاً.

تطبيقات حجّية الظهور على الأدلّة اللفظية :

ونستعرض في ما يلي ثلاث حالاتٍ لتطبيق قاعدة حجّية الظهور :

الاولى : أن يكون لِلَّفظ في الدليل معنىً وحيد في اللغة ولا يصلح للدلالة على معنىً آخر في النظام اللغويِّ والعرفيِّ العامّ.

والقاعدة العامّة تحتِّم في هذه الحالة أن يُحمَل اللفظ على معناه الوحيد ويقال : «إنّ المتكلِّم أراد ذلك المعنى» ؛ لأنّ المتكلِّم يريد باللفظ دائماً المعنى المحدَّد له في النظام اللغويِّ العامّ ، ويعتبر الدليل في مثل هذه الحالة صريحاً في معناه ونصّاً.

الثانية : أن يكون لِلَّفظ معانٍ متعدِّدةٌ متكافئة في علاقتها باللفظ بموجب النظام اللغوي العام ، من قبيل المشترك ، وفي هذه الحالة لا يمكن تعيين المراد من اللفظ على أساس تلك القاعدة ، إذ لا يوجد معنى أقرب إلى اللفظ من ناحيةٍ لغويةٍ لتطبَّق القاعدة عليه ، ويكون الدليل في هذه الحالة مجملاً.

الثالثة : أن يكون لِلَّفظ معانٍ متعدِّدة في اللغة وأحدها أقرب إلى اللفظ لغوياً من سائر معانيه ، ومثاله : كلمة «البحر» التي لها معنىً حقيقيّ قريب وهو «البحر من الماء» ، ومعنىً مجازيّ بعيد وهو «البحر من العلم» ، فإذا قال الآمر : «إذهب إلى البحر في كلّ يومٍ» وأردنا أن نعرف ماذا أراد المتكلم بكلمة «البحر» من هذين المعنيين ، يجب علينا أن ندرس السياق الذي جاءت فيه كلمة «البحر» ونريد ب «السياق» كلّ ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالّ اخرى ، سواء كانت لفظيةً كالكلمات التي تشكّل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً ، أو حاليّةً كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالةٍ في الموضوع.

فإن لم نجد في سائر الكلمات التي وردت في السياق ما يدلّ على خلاف المعنى الظاهر من كلمة «البحر» كان لزاماً علينا أن نفسِّر كلمة «البحر» على أساس المعنى اللغوي الأقرب تطبيقاً للقاعدة العامة القائلة بحجّية الظهور.

وقد نجد في سائر أجزاء الكلام ما لا يتّفق مع ظهور كلمة «البحر» ، ومثاله أن يقول الآمر : «إذهب إلى البحر في كلّ يوم واستمع إلى حديثه باهتمام» ، فإنّ الاستماع إلى حديث البحر لا يتّفق مع المعنى اللغويّ الأقرب إلى كلمة «البحر» ، وإنّما يناسب العالم الذي يشابه البحر لغزارة علمه ، وفي هذه الحالة نجد أنفسنا تتساءل : ماذا أراد المتكلِّم بكلمة «البحر»؟ هل أراد بها البحر من العلم بدليل أنّه أمرنا بالاستماع إلى حديثه ، أو أراد بها البحر من الماء ولم يقصد بالحديث هنا المعنى الحقيقيّ ، بل أراد به الإصغاء إلى صوت أمواج البحر؟ وهكذا نظلّ متردِّدين بين كلمة «البحر»

وظهورها اللغويّ من ناحية ، وكلمة «الحديث» وظهورها اللغوي من ناحيةٍ اخرى ، ومعنى هذا أنّا نتردّد بين صورتين :

إحداهما : صورة الذهاب إلى بحرٍ من الماء المتموِّج والاستماع إلى صوت موجه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «البحر».

والاخرى : صورة الذهاب إلى عالمٍ غزير العلم والاستماع إلى كلامه ، وهذه الصورة هي التي توحي بها كلمة «الحديث».

وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ السياق جميعاً ككلٍّ ونرى أيَّ هاتين الصورتين أقرب إليه في النظام اللغوي العام؟ أي أنّ هذا السياق إذا القي على ذهن شخصٍ يعيش اللغة ونظامها بصورةٍ صحيحةٍ هل سوف تسبق إلى ذهنه الصورة الاولى ، أو الصورة الثانية؟ فإن عرفنا أنّ إحدى الصورتين أقرب إلى السياق بموجب النظام اللغويّ العام ـ ولنفرضها الصورة الثانية ـ تكوَّن للسياق ـ ككلٍّ ـ ظهور في الصورة الثانية ، ووجب أن نفسِّر الكلام على أساس تلك الصورة الظاهرة.

ويطلق على كلمة «الحديث» في هذا المثال اسم «القرينة» ؛ لأنّها هي التي دلّت على الصورة الكاملة للسياق وأبطلت مفعول كلمة «البحر» وظهورها.

وأمّا إذا كانت الصورتان متكافئتين في علاقتهما بالسياق فهذا يعني أنّ الكلام أصبح مجملاً ولا ظهور له ، فلا يبقى مجال لتطبيق القاعدة العامّة.

القرينة المتَّصلة والمنفصلة :

عرفنا أنّ كلمة «الحديث» في المثال السابق قد تكون قرينةً في ذلك السياق ، وتسمّى «قرينةً متّصلة» ؛ لأنّها متّصلة بكلمة «البحر» التي أبطلت مفعولها وداخلة معها في سياقٍ واحد ، والكلمة التي يبطل مفعولها بسبب القرينة تسمّى