درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۴: دلیل شرعی ۶

 

أحدهما : الإرادة الاستعماليّة ، إذ نعرف عن طريق صدور الجملة من المتكلِّم أنّه يريد منّا أن نتصوّر معاني كلماتها.

والآخر : الإرادة الجدّية ، وهي الغرض الأساسيّ الذي من أجله أراد المتكلِّم أن نتصوّر تلك المعاني.

وأحياناً تتجّرد الجملة عن المدلول التصديقيّ الثاني ، وذلك إذا صدرت من المتكلّم في حالة الهزل ، لا في حالة الجدِّ ، وإذا لم يكن يستهدف منها إلاّمجرّد إيجاد تصوّراتٍ في ذهن السامع لمعاني كلماتها ، فلا توجد في هذه الحالة إرادة جدّية ، بل إرادة استعماليّة فقط.

والدلالة التصديقية ليست لغوية ، أي أنّها لا تعبِّر عن علاقةٍ ناشئةٍ عن الوضع بين اللفظ والمدلول التصديقي ؛ لأنّ الوضع إنّما يوجِد علاقةً بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، لا بين اللفظ والمدلول التصديقي ، وإنّما تنشأ الدلالة التصديقية من حال المتكلّم ، فإنّ الانسان إذا كان في حالة وعيٍ وانتباهٍ وجدّيةٍ وقال : «الحقّ منتصر» يدلّ حاله على أنّه لم يقل هذه الجملة ساهياً ولا هازلاً ، وإنّما قالها بإرادةٍ معيّنةٍ واعية.

وهكذا نعرف أنَّا حين نسمع جملةً كجملة «الحقّ منتصر» نتصوّر المعاني اللغوية للمبتدأ والخبر بسبب الوضع الذي أوجد علاقة السببية بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، ونكشف الإرادة الواعية للمتكلّم بسبب حال المتكلّم ، وتصوُّرنا ذلك يمثّل الدلالة التصوّرية ، واكتشافنا هذا يمثّل الدلالة التصديقية ، والمعنى الذي نتصوّره هو المدلول التصوّريّ واللغويّ لِلَّفظ ، والإرادة التي نكتشفها في نفس المتكلّم هي المدلول التصديقيّ والنفسيّ الذي يدلّ عليه حال المتكلّم.

وعلى هذا الأساس نكتشف مصدرين للدلالة :

أحدهما : اللغة بما تشتمل عليها من أوضاع ، وهي مصدر الدلالة التصوّرية.

والآخر : حال المتكلّم ، وهو مصدر الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على مدلوله النفسيّ التصديقي ، فإنّ اللفظ إنّما يكشف عن إرادة المتكلِّم إذا صدر في حال يقظةٍ وانتباهٍ وجدّيّة ، فهذه الحالة هي مصدر الدلالة التصديقية ، ولهذا نجد أنّ اللفظ إذا صدر من المتكلّم في حالة نومٍ أو ذهولٍ لا توجد له دلالة تصديقية ومدلول نفسي.

الجملة الخبرية والجملة الإنشائية :

تقسَّم الجملة عادةً إلى خبريةٍ وإنشائية ، ونحن في حياتنا الاعتيادية نحسُّ بالفرق بينهما ، فأنت حين تتحدّث عن بيعك للكتاب بالأمس وتقول : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» ترى أنّ الجملة تختلف بصورةٍ أساسيةٍ عنها حين تريد أن تعقد الصفقة مع المشتري فعلاً ، فتقول له : «بعتُكَ الكتابَ بدينار».

وبالرغم من أنّ الجملة في كلتا الحالتين تدلّ على نسبةٍ تامةٍ بين البيع والبائع ـ أي بينك وبين البيع ـ يختلف فهمنا للجملة وتصوّرنا للنسبة في الحالة الاولى عن فهمنا للجملة وتصوّرنا للنسبة في الحالة الثانية ، فالمتكلِّم حين يقول في الحالة الاولى : «بعتُ الكتابَ بدينارٍ» يتصوّر النسبة بما هي حقيقة واقعة لا يملك من أمرها فعلاً شيئاً ، إلاّأن يخبر عنها إذا أراد ، وأمّا حين يقول في الحالة الثانية : «بعتُكَ الكتابَ بدينارٍ» فهو يتصوّر النسبة لا بما هي حقيقة واقعة مفروغ عنها ، بل يتصوّرها بوصفها نسبةً يراد تحقيقها.

ونستخلص من ذلك : أنّ الجملة الخبرية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الإنشائية موضوعة للنسبة التامة منظوراً إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها.

وهناك من يذهب من العلماء ـ كصاحب الكفاية رحمه‌الله (١) ـ إلى أنّ النسبة التي تدلّ عليها «بعتُ» في حال الإخبار و «بعتُ» في حال الإنشاء واحدة ، ولا يوجد أيّ فرقٍ في مرحلة المدلول التصوّري بين الجملتين ، وإنّما الفرق في مرحلة المدلول التصديقي ؛ لأنّ البائع يقصد بالجملة إبراز اعتبار التمليك بها وإنشاء المعاوضة عن هذا الطريق ، وغير البائع يقصد بالجملة الحكاية عن مضمونها ، فالمدلول التصديقيّ مختلف دون المدلول التصوّري.

ومن الواضح أنّ هذا الكلام إذا تعقّلناه فإنّما يتمّ في الجملة المشتركة بلفظٍ واحدٍ بين الإنشاء والإخبار ، كما في «بعتُ» ، ولا يمكن أن ينطبق على ما يختصّ به الإنشاء أو الإخبار من جمل. فصيغة الأمر ـ مثلاً ـ جملة إنشائية ولا تستعمل للحكاية عن وقوع الحدث ، وإنّما تدلّ على طلب وقوعه ، ولا يمكن القول هنا بأنّ المدلول التصوريّ ل «افعل» نفس المدلول التصوّري للجملة الخبرية ، وأنّ الفرق بينهما في المدلول التصديقي فقط. والدليل على عدم إمكان هذا القول : أنَّا نحسّ بالفرق بين الجملتين حتّى في حالة تجرّدهما عن المدلول التصديقي وسماعهما من لافظٍ لا شعور له.

الدلالات التي يبحث عنها علم الاصول :

نستطيع أن نقسّم العناصر اللغوية من وجهة نظرٍ اصوليةٍ إلى عناصر مشتركةٍ في عملية الاستنباط ، وعناصر خاصّةٍ في تلك العملية.

فالعناصر المشتركة هي : كلّ أداةٍ لغويةٍ تصلح للدخول في ايِّ دليلٍ مهما كان نوع الموضوع الذي يعالجه ذلك الدليل ، ومثاله : صيغة فعل الأمر ، فإنّ بالإمكان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧