وقبل أن ندخل في مناقشة الأقوال ، والترجيح بينها ينبغي أن نذكر الأدلّة على الاستصحاب التي تمسّك بها القائلون بحجّيّته ، لنناقشها ، ونذكر مدى دلالتها.
أدلّة الاستصحاب
الدليل الأوّل : بناء العقلاء
لا شكّ في أنّ العقلاء من الناس ـ على اختلاف مشاربهم وأذواقهم ـ جرت سيرتهم في عملهم ، وتبانوا في سلوكهم العمليّ على الأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ اللاحق في بقائه. وعلى ذلك قامت معايش العباد ، ولو لا ذلك لاختلّ النظام الاجتماعيّ ، ولما قامت لهم سوق وتجارة.
وقيل : إنّ ذلك مرتكز حتى في نفوس الحيوانات ؛ فالطيور ترجع إلى أوكارها ، والماشية تعود إلى مرابضها.
ولكن هذا التعميم للحيوانات محلّ نظر ، بل ينبغي أن يعدّ من المهازل ؛ لعدم حصول الاحتمال عندها حتى يكون ذلك منها استصحابا ، بل تجري في ذلك على وفق عادتها بنحو لا شعوريّ.
وعلى كلّ حال ، فإنّ بناء العقلاء في عملهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في بقائها ، في جميع أحوالهم وشئونهم ، مع الالتفات إلى ذلك ، والتوجّه إليه.
وإذا ثبتت هذه المقدّمة ننتقل إلى مقدّمة أخرى ، فنقول : إنّ الشارع من العقلاء ، بل رئيسهم ، فهو متّحد المسلك معهم ، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العمليّة ، يثبت على سبيل القطع أنّه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم ، وإلاّ لظهر ، وبان ، ولبلغ الناس. وقد تقدّم مثل ذلك في حجّيّة خبر الواحد. (١)
وهذا الدليل ـ كما ترى ـ يتكوّن من مقدّمتين قطعيّتين :
__________________
(١) تقدّم في الصفحتين : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.