ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي ، وأكثروا ـ بل حتى فيما خالف النصّ ـ تصرّفا في الشريعة باجتهاداتهم. والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن ـ كما سبق أن أوضحناه ـ لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم ، من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، ولم يعرف عنهم على أيّ أساس كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلا للنصوص ، أو جهلا بها ، أو استهانة بها؟ ربما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم.

وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه ، وخصائصه في القرن الثاني والثالث ـ كما سبق بيانه (١) ـ فميّزوا بين القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة.

ومن الاجتهادات قول عمر بن الخطّاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ، ومعاقب عليهما» (٢). ومنها : جمعه الناس لصلاة التراويح. (٣) ومنها : إلغاؤه في الأذان «حيّ على خير العمل» (٤).

فهل كان ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟

لا ينبغي أن يشكّ أنّ مثل هذه الاجتهادات ليس من القياس في شيء. وكذلك كثير من الاجتهادات عندهم.

وعليه ، فابن حزم على حقّ إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس سابقا معروفا بحدوده في اجتهادات الصحابة ، حينما قال في كتابه «إبطال القياس» : «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني ، فقال به بعضهم ، وأنكره سائرهم وتبرّءوا منه». (٥) ، وقال في كتابه «الإحكام» : «إنّه بدعة حدث في القرن الثاني ، ثمّ فشا ، وظهر في القرن الثالث». (٦) أمّا : إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة ـ وهو لا يريد ذلك قطعا ـ فهو إنكار لأمر ضروريّ

__________________

(١) سبق بيانه في الصفحة : ١٦٥ من هذا الجزء.

(٢) راجع الغدير ٦ : ٢٠٩ ـ ٢١٣.

(٣) راجع المغني (لابن قدامة) ١ : ٧٩٨.

(٤) راجع شرح التجريد (للقوشجىّ) : ٣٧٤.

(٥) ملخّص إبطال القياس : ٥.

(٦) الإحكام (لابن حزم) ٧ : ١٧٧.

۶۸۸۱