وهناك قلنا : إنّ بناء العقلاء لا يكون دليلا إلاّ إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقة العقلاء ؛ لأنّ اليقين تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة.

وقلنا هناك : إنّ موافقة الشارع لا تستكشف على نحو اليقين إلاّ بأحد شروط ثلاثة. ونذكر خلاصتها هنا بأسلوب آخر من البيان ، فنقول :

إنّ السيرة إمّا أن ينتظر فيها أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء ؛ إذ لا مانع من ذلك. وإمّا ألاّ ينتظر ذلك ؛ لوجود مانع من اتّحاده معهم في المسلك ، كما في الاستصحاب.

فإن كان الأوّل ، فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجّيّة فيها قطعا.

وإن لم يثبت الردع منه ، (١) فلا بدّ أن يعلم اتّحاده في المسلك معهم ؛ لأنّه أحد العقلاء ، بل رئيسهم ، فلو لم يرتضها ولم يتّخذها مسلكا له كسائر العقلاء ، لبيّن ذلك ، ولردعهم عنها ، ولذكر لهم مسلكه الذي يتّخذه بدلا عنها ، لا سيّما في الأمارات المعمول بها عند العقلاء ، كخبر الواحد الثقة ، والظواهر.

وإن كان الثاني فإمّا أن يعلم جريان سيرة العقلاء في العمل بها في الأمور الشرعيّة ، كما في الاستصحاب. وإمّا ألاّ يعلم ذلك ، كما في الرجوع إلى أهل الخبرة في إثبات اللغات.

فإن كان الأوّل فنفس عدم ثبوت ردعه كاف في استكشاف موافقته لهم ، لأنّ ذلك ممّا يعنيه ويهمّه ، فلو لم يرتضها ـ وهي بمرأى ومسمع منه ـ لردعهم عنها ، ولبلّغهم بالردع ، بأيّ نحو من أنحاء التبليغ ، فبمجرّد عدم ثبوت الردع منه نعلم بموافقته ؛ ضرورة أنّ الردع الواقعيّ غير الواصل لا يعقل أن يكون ردعا فعليّا ، وحجّة.

وبهذا نثبت حجّيّة مثل الاستصحاب ببناء العقلاء ؛ لأنّه لمّا كان ممّا بنى على العمل به العقلاء بما فيهم المسلمون ، وقد أجروه في الأمور الشرعيّة بمرأى ومسمع من الإمام ، والمفروض أنّه لم يكن هناك ما يحول دون إظهار الردع ، وتبليغه من تقيّة ، ونحوها ، فلا بدّ أن يكون الشارع قد ارتضاه ؛ طريقة في الأمور الشرعيّة.

وإن كان الثاني ـ أي لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعيّة ـ فإنّه لا يكفي حينئذ في

__________________

(١) أي : من الشارع.

۶۸۸۱