ومما ذكر يظهر أن نفس القرآن بفصاحته وبلاغته ومحتواه معجزة وبعبارة اخرى ، إعجازه داخلي بمعنى أنه على كيفية يعجز عنه الآخرون من الجن والإنس ، وعليه فما نقل عن النظام والسيد المرتضى ، واحتمله المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في متن تجريد الاعتقاد ، والعلّامة الحلي في شرحه من الصرفة بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة ، وإلّا فالعرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب ، وإنما منعوا عن الاتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه ، في غاية الضعف ، فإن كثيرا ممن تصدوا لمعارضة القرآن ولم يستطيعوا ، اعترفوا بأن القرآن في درجة ، عجز عن مثله البشر ، فإن لم يكن القرآن معجزا بنفسه ، لزم أن يعترف العاجز بمجرد العجز عن الاتيان بمثله ، وقد روى قاضي عياض في إعجاز القرآن أنه ذكر أبو عبيد أن اعرابيا سمع رجلا يقرأ ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١) فسجد ، وقال : سجدت لفصاحته ، وحكى الاصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى : ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

وسمع آخر رجلا يقرأ ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (٣) فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام ، ولذلك أيضا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤) قال : والله إن

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

(٢) القصص : ٧.

(٣) يوسف : ٨٠.

(٤) النحل : ٩٠.

۳۲۰۱